كرامة اللبناني الاقتصادية

 

في القراءة الدورية للأوضاع الاقتصادية نغرق أحيانا في تحليل الأرقام والمؤشرات ونبتعد عن القضايا أو التحديات الأساسية التي تهم المواطن. ماذا ينفعنا أن يتحقق النمو وتنخفض البطالة في اقتصاد لا يحترم أو لا يؤمن الكرامة الاقتصادية للمواطن. فالعدالة الاقتصادية ترتكز على 3 عوامل مهمة أولا أن يستطيع المواطن تأمين حاجات عائلته المختلفة من تعليم وطبابة وغذاء وغيرها، وأن يكون ثانيا متحررا من الوصايات والاستزلامات والسيطرات المختلفة التي تجعله مرتبطا بزعامات سياسية لتأمين حاجاته الأساسية أو للوصول الى حقوقه البديهية كمواطن محترم. أما ثالثا فهي مرتبطة بقدرة الانسان على تطوير نفسه والوصول الى أهدافه الاقتصادية التي تحقق أحلامه وتجعله يعيش بأمان ولا يرغب بالهجرة أو بالهروب الى بلاد آمنة.

نعلم جميعا أن هذه الشروط الثلاث غير مؤمنة في لبنان وبالتالي ليست هنالك عدالة اقتصادية في بلدنا. هذا أهم بكثير من نسبة ارتفاع الناتج أو مؤشر التضخم أو غيرهما من المؤشرات الاقتصادية العادية. هل اهمال الكرامة مقبول أو مبرر ولماذا لا يطالب اللبنانيون بالوصول اليها لأنها حق لهم؟ فالكرامة هي مجموعة العوامل الضرورية كي يشعر المواطن انه محترم في دولته وأن له حقوق تفوق رغبات السياسيين ومطالبهم. فالسياسات الاقتصادية مثلا التي تؤمن زيادة الناتج المحلي الاجمالي على حساب كرامة الموطن هي مرفوضة حكما.

من التصرفات المشتركة لكافة حكومات العالم هو التطرق الى الوسائل وليس الى الأهداف والنتائج لأنها أسهل في التطبيق ويمكن رؤية النتائج بسرعة وبالعين المجردة. في المبدأ، ما هي أهم الأهداف الاقتصادية لأي حكومة؟. هل هي رفع الناتج أو تخفيض العجزين المالي والخارجي أم تحقيق العدالة الاقتصادية للمواطن الذي يجب أن يكون هو الهدف الأول. فالمؤشرات ليست الا وسائل للوصول الى الأهداف. مؤسف أن نرى النقاش الاقتصادي العام في معظم الدول يدور عموما حول الوسائل حتى فيما يخص أهم الأهداف الاجتماعية أي صحة المواطن مثلا. أين يكون النقاش العام؟ عموما حول توزيع المهمات التأمينية والتمويلية بين القطاعين العام والخاص مما يساهم في تقسيم الرأي العام بين مؤيد ومعارض وبالتالي يغيب الهدف أي تحقيق الأمن الصحي للمواطن عن النقاش العام.

فالوسائل تقسم الرأي العام أي حول التمويل ومصادره. أما الأهداف كتأمين الطبابة للفقراء وللمرضى، فهي تجمع وبالتالي على السياسيين التركيز على الأهداف وليس على الوسائل. الانقسام بسبب الوسائل يؤدي الى انقسام شعبي مناطقي أو ديني أو مذهبي وبالتالي سلبياته واضحة على الاستقرار العام. يجب أن تكون كرامة المواطن الاقتصادية هي هدف كل الحكومات. من الكرامات البديهية هي «كرامة العمل» حيث يستطيع المواطن تأمين الحد الأدنى من حاجاته وحاجات عائلته. كما تعني الكرامة أن يكون العمل ليس فقط كافيا ماديا، بل نفسيا أيضا أي يشعر من خلاله المواطن أن له دور مهم في المجتمع يسمح له بتحقيق سعادته وثم سعادة المجتمع بأسره. لذا فالكرامة الاقتصادية ترتكز على دور الانسان المادي وقدرته على بناء عائلته كما على وجود غطاء اجتماعي يسمح له بالعيش بأمان خاصة في هذه الظروف الاقتصادية والصحية كما المناخية العالمية الخطيرة.

هل الحكومات اللبنانية المتعاقبة مهتمة بكرامة اللبناني الاقتصادية؟. هل حاولت تحقيق ذلك ولماذا فشلت وتركت اللبناني مكشوفا في كل المجالات؟. هل كانت الحكومات واعية لهذه الأهداف أم اقتصر نظرها على تحسين المؤشرات الرقمية؟ يقول الاقتصادي «جين سبيرلنغ» أن الحصول على أجر كاف وجعل المواطن مطمئنا لأوضاعه يساهم في جعل الاقتصاد أكثر مرونة وحيوية أي يحسن أوضاع الجميع. كما يساهم في زيادة تعلق المواطن بأرضه وعدم اللجوء الى الهجرة الشرعية وغير الشرعية. فالحكومات الحالية تحاول الاختيار بين النمو أو العدالة، أما المطلوب اليوم فهو تحقيق النمو والعدالة سوية.

يقول سبيرلينغ أن توجه الحكومات نحو تحقيق الكرامة الاقتصادية يساهم في جمع الشمل المناطقي كما العرقي والمذهبي والسكاني لأن أهداف المواطن واحدة. من هنا ربط الأهداف الاقتصادية بالأخلاقية والنفسية هو في غاية الأهمية. لذا لا بد للحكومات المسؤولة من أن تهتم بالذين لا يستطيعون تحقيق كرامتهم عبر رعايتهم بكافة الطرق المتوافرة. فالمنافسة الاقتصادية الحالية أدت وتؤدي الى سؤ توزع الدخل والثروات. من يربح يأخذ كل شيء، ومن يخسر يبقى خارج اللعبة وهذا سيىء وضد كل مبادئ الكرامة. فالاقتصاد الصحي الحديث ليس فقط الاقتصاد الذي يؤمن السلع والخدمات للمواطن، وانما أيضا الاقتصاد الذي يرتكز على العلاقات الايجابية بين المواطنين في دولة واحدة. لا شك أن أوضاع المواطن المالية هي مهمة جدا له خاصة، لكن الحياة هي أهم وأكبر من ذلك اذ أن نوعية العيش تبقى في غاية الأهمية.

هنالك أنواع متعددة من الكرامات كالسياسية والأمنية ويجب تأمينها واحترام شروطها. لكن الكرامة الاقتصادية لا تقل أهمية عنهما. الواضح أن الكرامة الاقتصادية غير مؤمنة للبناني خاصة منذ الأزمة التي بدأت عمليا في 2019 وتحولت الى صحية وثم انهيار الليرة والقطاع المصرفي. جميعها ضربت كرامة اللبناني الاقتصادية. فاللبناني اليوم غير قادر على تأمين أهم شروط الكرامة وبالتالي أوضاعنا لا نحسد عليها، ولا بد من تغيير أولويات حكوماتنا المستقبلية. استكمال ملء الفراغات الدستورية هو مهم وثم البدء في تصويب الأهداف نحو الكرامة. لا يستطيع اللبناني اليوم تأمين حاجاته الشخصية والعائلية ومستقبله المهني مهدد، وبالتالي انتاجيته ضعيفة. هذا يعني أننا ندور في حلقة مفرغة أي فراغ ولا كرامة، وثم مشاكل اقتصادية تكبر دون حلول. اللبناني طموح ليس فقط ماديا وانما اجتماعيا ونفسيا، لكن الأوضاع الحالية تقتل هذا الطموح وتجعله يكتفي بما هو متوافر له وهذه وصفة واضحة ومؤكدة نحو السقوط.

Leave A Reply

Your email address will not be published.