الاستثمار في التكنولوجيا
لم يعد كافياً لأي دولة أن تواجه تحدياتها بالقوتين السياسية والعسكرية فقط، بل عليها أن تتحلى أيضا بالقوة الاقتصادية التي تعطيها في نفس الوقت قدرة دفاعية وهجومية تجاه الحلفاء كما الأعداء. فقوة أميركا مثلا ليست فقط سياسية وعسكرية وانما خاصة اقتصادية. فالرئيس ترامب يواجه حلفاءه وخصومه بالسياسات المناسبة لبلده. يواجه الحلفاء بالتعريفات الجمركية وبالتهديد بالخروج من مؤسسات ومنظمات اقليمية ودولية يستفيد منها الحلفاء كمعاهدة حلف شمال الأطلسي ومنظمة الصحة العالمية وكافة المؤسسات الأممية.
أما الخصوم فيواجههم بالعقوبات تماما كما هو الحال مع روسيا وايران وغيرهما. يرتكز ترامب ليس فقط على قوة الجيش الأميركي وعلى دهاء وخبرة الديبلوماسية الأميركية، بل يعتمد أيضا على تفوقه الاقتصادي المرتكز على التجدد التكنولوجي والانتاجية المرتفعة والقدرة على الاستفادة من القدرات البشرية والمالية الداخلية. أميركا لا تحتوي فقط على الأدمغة الكبيرة بل تنجح أيضا في استقطاب الأدمغة الخارجية من كل الدول. لذا فالسياسات المحددة للهجرة خاصة لاستقبال الأدمغة ستكون مضرة أكثر فأكثر على الاقتصاد الأميركي الذي يستفيد من اليد العاملة الخارجية الشرعية وغير الشرعية.
الشركات الأميركية، خاصة الكبيرة، كما الجامعات خاصة الرائدة تبني برامجها على التفوق في العلوم التكنولوجية وبالتالي تستقطب المبدعين من نواحي التعليم والبحوث والنشر والاتصالات. تنجح الولايات المتحدة عبر مؤسساتها في التعاون المثمر مع مؤسسات الابداع خارج حدودها كالندوات والبحوث المشتركة والمحاضرات والعلوم النظرية كما التطبيقية. لا يمكن لقطاع الأعمال الأميركي أن يتطور من دون بحوث تكنولوجية يقوم بها أو يستوردها للاستفادة الأحادية أو المشتركة.
فالتجربة الكورية الجنوبية مثلا هي مضرب مثل للتعلم من الغير كما للنجاح في تطوير البحوث الداخلية. لم تكتف كوريا بالتعلم من اليابان ونسخ بعض تجاربها، بل نجحت أيضا في خلق وتطوير بحوث تكنولوجية داخلية يعرفها العالم جيدا في العديد من القطاعات. من منا لا ينظر باعجاب الى منتجات «سامسونغ» مثلا وكافة الأجهزة المنزلية والسيارات المصنوعة في كوريا والتي تراعي جميعها مبدئي النوعية والسعر. فالدول الناجحة هي التي عرفت كيف تشجع على التجديد والابتكار وكيفية تحويلهما الى عوامل نمو تنقل الناتج المحلي الاجمالي الفردي الى مستويات أعلى.
ما هي العوامل المهمة للنجاح التكنولوجي في الألفية الثالثة والتي عرفت دول شرق أسيا خاصة الاستفادة منها الى أقصى الحدود؟
أولا: حجم السوق وهو عامل ضروري لتسويق المنتجات ودفع المبدعين نحو تطوير منتجاتهم. هنالك دول صغيرة تنجح في الابداع التكنولوجي اذا استفادت من الأسواق الخارجية. أما الدول الكبيرة فتكفيها أسواقها وبالتالي ليست بحاجة الى أسواق خارجية.
ثانيا: الى أي مدى يمكن للدول والمؤسسات المبدعة أن تدعي أن أفكار التجدد التكنولوجي هي لها ومنها وليست منسوخة أو منقولة من دول أو مؤسسات أخرى؟ هنالك مؤسسات دولية هدفها حماية الملكية الفكرية ومنها كل الابداع التكنولوجي. هذف الحماية هو تشجيع المبدعين على الاستفادة من ابداعهم والاستمرار بالأعمال لمصلحتهم كما لمصلحة الاقتصادين الوطني والعالمي.
ثالثا: هيكلية القطاع الذي يعمل فيه المبدعون. المقصود هنا هو مدى سيطرة شركة أو عدد قليل على القطاع وبالتالي يحرم الشركات الصغيرة والأفراد من الابداع. فالمنافسة الحرة داخل أي قطاع هي ضرورية لمصلحة الابداع. سيطرة شركة واحدة أو شركات قليلة على السوق، كما يحصل اليوم في أسواق التكنولوجيا، يحرم المبدعين الصغار من امكانية النجاح وربما يجبرهم على الدخول الى الشركات الكبيرة كي يستطيعوا الاستمرار.
رابعا: نسبة الاستثمار في التجدد على صعيد الدولة مهم جدا لتشجيع جميع المواطنين على الابتكار. لذا فالنقاش ضمن الموازنات العامة السنوية مهم جدا لادخال أموال كافية الى قطاع العلوم والبحوث والابتكار لمصلحة الاقتصاد العام وبالتالي النمو. فالبحوث التكنولوجية الخاصة ترتكز عموما على البحوث العامة، مما يوجهها ويخفف من تكلفتها ويوسع تغطيتها.
لا شك أن العالم على مفرق طريق خطر اليوم ليس فقط بسبب بداية عهد ترامب وانما بسبب العلاقات الدولية المتعثرة في معظم المناطق ان لم يكن جميعها. فالعالم على مفرق طرق بسبب تغير طرق العمل من المباشر الى ما يعرف بالعمل عن بعد. هنالك تأثير كبير على الأجور سيظهر أكثر فأكثر خاصة بسبب الانتاجية التي من المتوقع أن ترتفع مع الوقت. فالتكنولوجيا مهمة شرط أن لا تقود الانسان كما يحصل أحيانا اليوم، بل أن يقودها ويوجهها لمصلحته ومصلحة الدولة ككل. هنالك نقاش عالمي اليوم يدور حول تأثير التطور التكنولوجي المدهش على سعادة الانسان. هل انسان اليوم أكثر سعادة من انسان القرن الماضي مثلا؟ أو غيرها من الفترات الزمنية؟ ما علاقة التكنولوجيا بالسعادة؟ اذا كان التأثير سلبيا فلماذا نقوم بها وما جدوى تلك الجهود الكبيرة والتكاليف الباهظة؟
هل سيؤدي الاستثمار الكبير في التكنولوجيا الى الوصول الى عالم أفضل مريح أكثر للانسان وداعم أكثر للنمو وثم للتنمية؟ هل سيؤدي الاستثمار الكبير في التكنولوجيا مثلا الى القضاء على السرطان وتصحيح مشاكل المناخ ومعالجة أسباب ونتائج الفقر وايجاد حلول للتطرف السياسي ولسؤ توزع الثروات والدخل؟ هل سيسيء التطور التكنولوجي الى الحريات حيث يجعل القرارات محصورة في أياد معدودة في قطاعي الأعمال والاستهلاك وغيرهما. أذا أساءت التكنولوجيا الى الحريات والديموقراطيات، فهل هنالك جدوى من الاستمرار بها وانفاق مليارات الدولارات على الذكاء الاصطناعي مثلا؟ هذه أسئلة كبيرة برسم العالم في مجتمعاته وقياداته اذ أن مستقبل الأجيال المقبلة على المحك.
يقول «ستيف جوبز» رئيس شركة «أبل» أنه علينا بناء المستقبل وأن لا نقلق على الماضي لأن المسيرة الحالية ايجابية ولمصلحة الانسان والتنمية. النجاح الاقتصادي يعتمد على اختيار التكنولوجيات المناسبة وبالتالي على طرق انتاج واتصال جديدة وفاعلة.