قراءة في حيثيات ادراج لبنان على اللائحة الرمادية

بقلم العميد الدكتور غازي محمود

ادراج لبنان على اللائحة الرمادية من قبل مجموعة العمل المالي (Financial Action Task Force, FATF) لم يُفاجئ المعنيين، لا بل كان المعنيون على علم بمضمون القرار قبل صدوره. سيما وأن المجموعة كانت بصدد ادراج لبنان على هذه اللائحة في اجتماعها الذي انعقد في الامارات العربية المتحدة في تشرين الأول من العام الماضي، على خلفية سيطرة الاقتصاد النقدي على العلاقات المالية والعمليات التجارية، وما يرافقها من مخاطر تبييض للأموال وتشجيع الفساد والاحتيال وتمويل الارهاب.

وكان لبنان ومنذ العام 2022، تلقى تحذيرات من اكثر من جهة دولية لحثه على التقيد بمتطلبات مكافحة تبييض الأموال والحؤول دون تمويل الإرهاب والالتزام بمعايير الشفافية الدولية والامتثال لمقتضياتها. ما جعل إدراج لبنان ومنذ ذاك الحين على القائمة الرمادية امراً شبه محسوم، خاصةً وأن السلطات اللبنانية لم تعمل على معالجة أزمة القطاع المصرفي ومحاصرة الاقتصاد النقدي مع ما يُمثلانه من تحديات مالية واقتصادية، كما لم تتعامل بالجدية المطلوبة مع التهديدات والتحذيرات التي تلقتها.

وما حال دون ادراج لبنان على اللائحة الرمادية في العام 2023، التقييم الاولي للاقتصاد اللبناني الذي أجراه قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مجموعة العمل المالي، الامر الذي ادى الى وضع لبنان خارج اللائحة الرمادية لحصوله على مجموع يفوق بنقطة واحدة معدل دخول اللائحة. وذلك بعد تصنيف لبنان على أنه ملتزم جزئياً بالمعايير المتعلقة بمتطلبات اساسية للمجموعة، منها إجراءات مكافحة تبييض الأموال والشفافية فيما يتعلق بالملكية الفعلية للشركات والمساعدة القانونية المتبادلة المتعلقة بتجميد الأصول ومصادرتها.

ويأتي القرار الجديد فيما يعاني الاقتصاد اللبناني من أزمة ثقة عميقة، وفي وقتٍ يمثل فيه الاقتصاد النقدي نحو 50% من السوق اللبنانية، مما يزيد من تحديات التقيد بمعايير مكافحة تبييض الأموال ومنع تمويل الارهاب. الامر الذي يتطلب إجراء تعديلات في القوانين المرعية الاجراء والتدابير النافذة، لتتوافق مع مقتضيات امتثال لبنان لهذه المعايير. بينما بقيت محاولات السلطات المالية والنقدية اللبنانية لتعديل هذه القوانين وتحسين آليات الرقابة قاصرة عن تحقيق الهدف منها، في ظل عدم استقلالية القضاء واستمرار تفشي الفساد.

وتجدر الإشارة الى انها ليست المرة الأولى التي يُدرج فيها لبنان على اللائحة الرمادية، بل سبق أن أدرج لأول مرة في العام 2000، ليُرفع عنها في العام 2002. وما ساعد في رفع لبنان عن اللائحة الرمادية، يعود إلى إقرار قانون مكافحة تبييض الأموال في العام 2001 الذي استوفى 23 معياراً من أصل 24 من المعايير المطلوبة لمكافحة جرائم تبييض الأموال وتمويل الارهاب، كما يعود الى التزام لبنان الفعلي بتطبيق احكام هذا القانون في تلك الفترة. بالإضافة الى إنشاء وحدة الامتثال في هيئة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان وأقسام الامتثال في المصارف، لإخضاع العمليات المصرفية للمراجعة قبل إتمامها تحقيقاً للشفافية.

ويهدف قرار مجموعة العمل المالي الجديد، إلى مراقبة مدى التزام لبنان بتطبيق المعايير والشروط الدولية لمكافحة تبييض الأموال ومنع تمويل الإرهاب، وحثه على عدم الاستمرار بتجاهل هذه المطالب والتهرب من تطبيقها. خاصة وان المحادثات التي دارت قُبيل اتخاذ القرار، تناولت عدم انتظام العمل في مؤسسات الدولة اللبنانية، وغياب الأحكام القضائية في ملفات غسيل أموال. ويأتي القرار في اطار زيادة مستوى الضغوط الدولية على لبنان من الجانب المالي، سيما وانه يتزامن مع العدوان الإسرائيلي.

إلا أن ما قد يحول دون التأثيرات او التداعيات السلبية للقرار على المسار النقدي في لبنان والتحويلات المالية، اعتراف القرار الجديد بقيام مصرف لبنان والمصارف بواجباتهم لجهة الالتزام بالمعايير الدولية في الشفافية وتطبيق الاجراءات المالية العالمية. وكذلك نجاح حاكم مصرف لبنان بالإنابة الدكتور وسيم منصوري في المحافظة على علاقات لبنان مع المصارف الدولية المراسلة الستة، التي ستُبقي تعاملها مع لبنان على ما كانت عليه، نتيجة التزام مصرف لبنان والمصارف بمتطلبات الشفافية وغيرها من معايير (FATF) والمؤسسات المالية العالمية.

​وعلى الرغم من أن قرار إدراج لبنان على اللائحة الرمادية لا يفرض عليه قيوداً مباشرة، الا أنه يضعه ضمن قائمة الدول غير المتعاونة وغير الملتزمة بمعايير وضوابط تبييض الاموال ومكافحة تمويل الإرهاب. ما يجعل من الإجراءات المتعلقة بالتحويلات المالية أكثر تشدداً، وتتطلب المزيد من المستندات لإثبات صحة مصادرها ووجهة إنفاقها. ويُرتب هذا الإدراج زيادة التدقيق في التحويلات المالية سواء تمت عبر الشركات المالية أو من خلال المصارف، ويؤدي بالتالي إلى زيادة تكلفة هذه العمليات بالإضافة الى التكاليف التشغيلية.

وسيقع العبء الذي يُسببه ارتفاع تكاليف التحويلات المالية جراء اللائحة الرمادية، على عاتق المواطن اللبناني الذي سيكون عليه أن يتحمل حصيلة ارتفاع كلفة الخدمات المصرفية. الامر الذي قد يؤدي الى تراجع التحويلات المالية ويزيد من مصاعب حصول اللبنانيين على العملات الأجنبية، نتيجة التشدد في التدقيق على التحويلات المالية وما قد ينتج عنه من مخاطر ارتفاع نسبة الإقصاء المالي. في الوقت الذي لا يزال فيه ما تبقى من ودائع المواطنين محتجزة في القطاع المصرفي، وجل ما يمكنهم الحصول عليه منها لا يتعدى قيمة سلة غذائهم الشهرية دون غيرها من المصاريف.

في المقابل، إذا استمر إدراج لبنان على هذه اللائحة لفترة طويلة، فقد يؤثر ذلك على علاقاته المالية مع المؤسسات المالية الدولية. ذلك أن التعاملات المالية مع البنوك والمؤسسات الأجنبية قد تصبح أكثر تعقيداً، مما قد يؤدي إلى تخفيض حجم التدفقات المالية ويزيد من كلفة التحويلات الخارجية. كما قد يجد المستثمرون صعوبة أكبر في العمل داخل لبنان، مما يفاقم من أزمته الاقتصادية.

وبينما كان ينتظر اللبنانيون أن تؤدي تحذيرات المؤسسات المالية الدولية الى إصلاحات في مالية الدولة ومعالجة لأزمة القطاع المصرفي واعاده هيكلته وتأهيله، نجد أن اهتمام هذه المؤسسات ولا سيما مجموعة العمل المالي يقتصر على مكافحة تبييض الأموال والحؤول دون تمويل الإرهاب. في حين يتعذر تحقيق هذه الأهداف من دون تحقيق الإصلاحات المطلوبة وإعادة الثقة بالقطاع المصرفي، الامر الذي لن يتحقق الا من خلال إعادة الودائع حتى لا نقول تحريرها.

وعلى أهمية أهداف مجموعة العمل المالي واهمية المحافظة على علاقات لبنان بالمؤسسات المالية الدولية، إلا أنه في ظل العدوان الإسرائيلي البربري على لبنان والفراغ في سُدة رئاسة الجمهورية، يُصبح الحديث عن الامتثال لمعايير مجموعة العمل المالي من باب الترف وأقرب الى الترهات منه الى الحديث المسؤول. ولبنان الذي عجزت حكومته عن بلورة حلول لأزمته المالية والاقتصادية على الرغم من الاستقرار النسبي الذي كان ينعم به، هو اليوم اعجز من مواجهة التداعيات الاجتماعية والاقتصادية للعدوان، فكيف له أن يُعيد انتظام عمل القطاع المصرفي وانتظام عمل الدولة ومؤسساتها.

٦/١٠/٢٠٢٤

Leave A Reply

Your email address will not be published.