تنويع الاقتصاد اللبناني
اقتصاد لبنان ارتكز تاريخيا وما زال على قطاع الخدمات، وثم قليلا على الصناعة وأقل منهما على الزراعة. هذا خاطئ وأوصلنا الى ما نحن عليه من صعوبات ونتائج اقتصادية متعثرة. من أهم تحديات القرن الـ 21 تأمين الانتاج الغذائي الجيد للجميع وخاصة للدول الأكثر فقرا. لن تنجح الزراعة اذا لم يتم الانتباه في نفس الوقت الى الثروة المائية والى التقدم العلمي لزيادة الانتاجية ورفع مستوى النوعية. التنبه الى السلامة البيئية يعزز الانتاج الزراعي وسلامته. المهم أن يستمر دعم البحث والتطوير الزراعي في الجامعات ومراكز البحوث خاصة عبر الأموال العامة.
المؤتمرات والندوات القطاعية التي تقام حاليا في لبنان مهمة جدا، ويجب أن تنفذ توصياتها بدقة كي تزدهر لمصلحة المناطق. لا تكفي الخطابات الرنانة اذ أن الوقت ليس لصالحنا. يجب أن تتابع الاصلاحات القانونية بالتعاون بين القطاعين العام والخاص. تنقصنا اليوم الأموال للاستثمار في كل القطاعات التي تحتاج الى التجدد والأفكار الخلاقة، حتى لو كانت مقتبسة من الخارج. الابداع مطلوب أكثر من أي وقت مضى لأن اقتصادنا أصبح صغيرا ويجب بذل كل الجهود من قبل الجميع للتكبير عبر الاستثمارات المدروسة المناسبة.
حتى ضمن القطاع الواحد، هنالك ضرورة للدخول في التفاصيل والجزئيات التي تختلف بين الأقسام. يحتاج لبنان عمليا الى نهضة كل قطاعاته الاقتصادية لتحقيق نمو يناسب الزيادات السكانية والتطلعات الايجابية. تضررت هذه القطاعات خلال الحرب اللبنانية ومع الكورونا كما بسبب السياسات المنحازة غير المنطقية التي اتبعت من قبل حكومات سابقة عدة. هنالك انطباع عند المواطن أن لبنان لا يمكن أن يكون منتجا في الصناعة والزراعة، وهذا خاطئ والتجارب الدولية تؤكد ذلك. تنويع الاقتصاد اللبناني يشكل ضمانة للمستقبل.
من أسوأ النتائج التي صدرت عن العولمة وانتقلت الى لبنان تضخم القطاع الثالث أو الخدمات الى حدود غير مسبوقة. من أخطر نتائج العولمة انحدار القطاع الزراعي اذ أن الجميع يريد العمل في القطاع الخدماتي أي المصارف والتأمين والسياحة والبورصة وغيرها والقليل يريد أن «يلوث» يديه في الصناعة والزراعة. في لبنان تبذل جهود كبرى لدفع الصناعة والخدمات الى الأمام بينما الالتفاف حول الزراعة ما زال خجولا ربما لأن ربحية القطاع تبقى متدنية مقارنة بالقطاعات الأخرى.
يحتاج القطاع الزراعي اللبناني الى الاستثمارات والارشاد والتكنولوجيا وثم الأسواق. فالزراعة ليست قطاعا ماديا فقط، انما هي مصدر للحياة وتؤثر على المناخ والصحة. في كل الدول تدنت حصة الزراعة في الاقتصاد وتدنى الانتاج وارتفعت الأسعار وأصبح من الصعب احياء القطاع حتى مع الدعم السخي والحمايات المرتفعة. حاولت أوروبا كما الولايات المتحدة الحفاظ على حيوية زراعاتها عبر الدعم السخي بعشرات مليارات الدولار سنويا لكن المشكلة أنها أفادت كبار المزارعين مما وسع فجوة الدخل في القطاع. يعتبر هذا أيضا جزأ من الفساد المنتشر دوليا.
تنشيط القطاع الزراعي اللبناني لا يساهم فقط في انماء الريف وبقاء اللبناني في أرضه وانما يؤثر على التوازنات المالية والتجارية. نحتاج في لبنان الى زيادة كل صادراتنا وتخفيف كل وارداتنا وهنا يكمن الدور الكبير للقطاع الزراعي. ماذا ننتج وأين لا يمكن تحديده الا علميا وتبعا للتربة والمناخ والاختصاصات والتجارب المتوافرة في كل المناطق. أما تعزيز موازنات وزارت الصحة والزراعة والبيئة فمهم جدا بدأ من اليوم، ولا بد من ايجاد مكامن هدر تدعم هذا التوجه. مشكلة التمويل الخاص أنه يهدف أحيانا الى الربح وبالتالي نشاطات البحث والعلوم يمكن أن تكون مركزة على ما يفيد الشركات الممولة مباشرة. هذا يحصل أيضا في الصحة حيث تنفق المليارات على الأدوية الباهظة وتهمل أدوية الفقراء. لا شك أن البحث الزراعي يستفيد أيضا من التقدم الحاصل في العلوم الأخرى كالفيزياء والكيمياء والطب.
لا بد من «ثورة» قطاعية زراعية لبنانية تستفيد من التقدم التقني والعلمي الحاصل لرفع الانتاجية وزيادة الانتاج في الكمية والتنوع والنوعية. الثورة الزراعية الأولى حصلت بين سنتي 1750 و 1850 في بريطانيا وتميزت بتغير كبير في طبيعة المجتمع والعلاقات داخله وهذا ما نحتاج اليه في لبنان. العرض الزراعي اللبناني ليس بمستوى الطلب وبالتالي وجب تغيير قواعد اللعبة لتعزيز القطاع وتشجيع المنتجين. المطلوب تطوير الانتاج وتحسين نوعية السلع كما الانتاج الحيواني بفضل تقدم البحوث والعلوم. يجب اعتماد الوسائل التقنية الجديدة عبر آليات وسماد وأدوية أصبحت متوافرة. سيحصل التقدم ببطء لكن بخطى ثابتة ومؤكدة. حكما ستختلف النتائج تبعا لعوامل الطقس وحسن استعمال التكنولوجيا.
حصلت الثورة الزراعية في بريطانيا وانتشرت بعدها الى أوروبا وبقية دول العالم. هنالك دول نامية وناشئة بينها لبنان لم تعرف بعد ثورتها الزراعية والحيوانية. من نتائج أي ثورة زراعية تطوير المدن والقرى والريف كما خلق شبكات نقل ومواصلات تحسن نوعية الحياة وتنقل السلع بين المنتج والمستهلك. أما انتاجية الأرض فلا بد وأن تتطور لتنتج سلعا أكثر وبتكلفة أدنى. حسن استعمال الأدوية والري والتقنيات الجديدة كما العلوم الزراعية هي جميعها في غاية الأهمية.
في الدول النامية والناشئة تعتاش نسبة أكبر من السكان من القطاع الزراعي مقارنة بلبنان حيث يتم النزوح الى بيروت والمدن الأخرى وهذا مضر بمستقبل لبنان. كي تنتعش الزراعة أكثر لا بد من التمويل وايجاد ضمان للانتاج الزراعي الخطر المرتبط بالطقس كما البحث عن أسواق للبيع في ظل أسعار متقلبة. هنالك قسم من القطاع الصناعي مرتبط بالزراعة أي التصنيع الزراعي المهم جدا لدول لا تستطيع القيام بالانتاج الصناعي الثقيل أو المتطور. تصدير السلع الزراعية مهم، لكن تصدير الصناعة الزراعية المعلبة مهم أيضا. تطوير الزراعة هو عمليا تطوير الاقتصاد ككل بسبب الترابط القوي بين كل القطاعات.