الوظيفة الاقتصادية الجديدة… ابتكار وإنتاج وخدمات
هل يضع العهد الجديد خطة خمسية لتحديد هوية لبنان الاقتصادية أو وظيفته الاقتصادية بعدما أظهرت التجارب أن هذه الهوية لم تكن واضحة، بدليل استمرار النقاشات حول تحديد مسؤوليات الانهيار، هل هو الاقتصاد الريعي؟ هل هو الفساد؟ والسؤال الأهم هل أصبح في الإمكان تحديد هوية اقتصادية جديدة للبلد بعد الانهيار، وفي ظل التغييرات التي طرأت؟
منذ العام 2019 فقد لبنان رسميّاً هويته الاقتصادية التي طالما تباهى بها، والتي قد تكون ساهمت في تدهور اقتصاده مع أوّل ضربة مالية اقتصادية يتعرّض لها. فاقتصاد لبنان الخدماتي المنحى الذي كانت تنمّيه بشكل رئيسي الخدمات المصرفية والسياحية، لم يعد يستطيع الحفاظ على تلك الهوية. ورغم أنه يجب العمل على إعادة بناء قطاع مصرفي مستدام لتمويل وتحريك أي اقتصاد يراد بناؤه في المستقبل، إلا أنه لا بدّ من وضع خطة خمسية لتغيير هوية لبنان الاقتصادية أو وظيفته الاقتصادية، لا تكون مبنيّة فقط على الخدمات والسياحة أو تدفقات المغتربين، بل على إرساء اقتصاد المعرفة لتحقيق النمو والازدهار.
وبما أن إنقاذ الاقتصاد، لم يعد ممكناً من خلال التعويل على استقطاب الودائع المصرفية فقط، أصبح من الضروري اليوم التحوّل نحو اقتصاد المعرفة، الاقتصاد المنتج القائم على تصدير الخدمات والمنتجات، والاقتصاد الذي يوفر بيئة مؤاتية لجذب الاستثمارات والأعمال.
في العام 2021 أعدّت الحكومة خطة اقتصادية لتحويل لبنان نحو اقتصاد مبتكر وتنافسي بحيث يتركّز هذا التحوّل على اعتماد مقاربة الميزة التفاضلية والأنشطة الصناعية القائمة على المعرفة. ودعت إلى العمل على توفير البيئة والسياسات الملائمة للأنشطة القائمة على المعرفة لتحقيق الازدهار. معتبرة أنه لطالما شكّل تصدير الخدمات عنصراً مساهماً رئيسياً في الصادارت، متوقعة أن تحقّق عملية تعزيز الخدمات المالية الرقمية، وتحسين إطار الملكية الفكرية، وتوفير خدمات الانترنت الملائمة والعالية السرعة نجاحاً باهراً في إرساء اقتصاد قائم على المعرفة وعلى الابتكار يشكل محرّكاً أساسياً للنمو. إلا أن تلك الخطط بقيت حبراً على ورق مع تواصل الأزمات السياسية والاقتصادية والأمنية والمالية، فهل يرسم العهد الجديد هوية لبنان الجديدة بناء على التطورات التي شهدتها اقتصاديات الدول العالمية؟
قفزة نوعية
في هذا الإطار، أوضح رئيس مجلس إدارة والمدير التنفيذي لـ “بيريتك” Berytech مارون شماس، أن النقطة الأساسية والأهمّ التي يجب العمل عليها بصورة ملحّة وسريعة هي إحراز قفزة نوعية في مجال التحوّل الرقمي لكل الخدمات والمعاملات الإدارية على صعيد جميع مؤسسات الدولة الحكومية والإدارية، بالتوازي مع التحوّل أيضاً نحو الدفع الالكتروني لكل المعاملات الإدارية والمتوجبات الضريبية وغيرها من الرسوم التي يتوجّب على المواطن تسديدها من فواتير الكهرباء، الاتصالات، مروراً برسوم المعاملات الإدارية، من عقارية وجمركية وصولاً إلى غرامات السير….
وشدّد شماس عبر “نداء الوطن” على أهميّة التحوّل الرقمي في مكافحة الفساد وإعادة بناء الثقة بالدولة، وفي تسهيل معاملات المواطنين وتوفير النفقات الحكومية وتسريع تنفيذ كل المعاملات، وبالتالي، التخلّص من الإجراءات البيروقراطية التي تشكّل عائقاً رئيساً لبيئة الأعمال والاستثمار في لبنان. مشيراً إلى أن معظم دول العالم المتطورة وغير النامية حتّى، تحوّلت نحو الخدمات الرقمية ونحو الدفع الإلكتروني.
ثانياً، أهمية تأهيل البنية التحتية على كل الأصعدة من مواصلات، كهرباء، واتصالات وتحديداً الاتصالات الرقمية information technology أي الإنترت، لافتاً في هذا السياق إلى وجود مليون و200 ألف مشترك بالإنترنت في لبنان، منهم حوالى 500 ألف فقط يشتركون عبر القنوات المرخصة لها تقديم هذه الخدمة مثل أوجيرو أو الشركات الخاصة. علماً أن هذا الأمر يفوّت على الدولة إيرادات مقدّرة بحوالى 80 مليون دولار سنوياً.
كما أوضح أن وزارة الاتصالات لم تمنح لغاية اليوم الشركات التي تملك ترخيصاً قانونياً لتأمين تقنية الـ 5G عبر التقنيات الحديثة على غرار ألفا وتاتش، الإذن للاستثمار بتلك التقنية، ولا تزال في المقابل تؤمّنها عبر تقنية الـ microwave التي لم تعد ملائمة لما هو مطلوب على صعيد توزيع الإنترنت.
وفيما شدّد شماس على ضرورة تعيين أعضاء الهيئة الناظمة لقطاع الاتصالات للسير بعملية تطوير وتأهيل البنية التحتية للقطاع، أوضح أنه يجب العمل بالتوازي مع التطوير الداخلي، على إضافة خط إنترنت مباشر أي كابل بين لبنان وأوروبا على غرار الكابل المعتمد حالياً مع قبرص وكابل قدموس، بالإضافة إلى اعتماد تقنية starlink لتأمين خدمة إنترنت رديفة (backup) في حال انقطاع الاتصالات عبر الوسائل الأخرى المعتمدة، مشيراً إلى أن هذا الأمر يشكل عامل جذب إضافياً للشركات الدولية الراغبة بالاستثمار في لبنان.
ثالثاً، التركيز على صناعة التكنولوجيا يجب أن يكون ضمن أولويات أي خطة خمسية اقتصادية، لأن لبنان يملك الإمكانات اللازمة لتطويرها وتفعيلها من خلال طاقاته البشرية المتوفرة والتي يعيقها عدم توفر خدمة إنترنت سريعة تلبّي حاجة تلك الصناعة، “أو في حال توفرها عبر مصادر مختلفة، تكون كلفتها مرتفعة جدّاً”.
رابعاً، ضرورة وجود قضاء مستقلّ ومُمَكْنَن من أجل البتّ بشكل سريع بقضايا الشركات المستثمرة، وهو أحد العوامل الأساسية التي تدخل ضمن المعايير الدولية لتحفيز بيئة الاستثمار.
خامساً، أهمية تعديل النظام الضريبي في لبنان. على سبيل المثال، تتراوح الضريبة على أرباح الشركات في قبرص بين 12 و15% بما فيها ضريبة التوزيع، في حين أنها تصل في لبنان إلى 27%، مما يجعل النظام الضريبي غير مؤات للاستثمار ومحفز للتهرّب الضريبي.
سادساً، ضرورة إعادة تفعيل القطاع المصرفي لأنه المحرّك الرئيس للاقتصاد ولإعادة إطلاق العجلة الاقتصادية، من خلال معالجة أزمة الودائع.
سابعاً، أهمية تحفيز القطاع الزراعي وتحديداً الـ agritech و الـ agrifood لزيادة حجم الإنتاج الزراعي عبر اعتماد بدائل عن المنتجات المستوردة. وهناك إمكانية كبيرة لتطوير تلك الزراعة في حال تأمين رؤوس أموال للاستثمار بها.
وأكد شماس في الختام، أن المغتربين اللبنانيين راغبون وجاهزون للاستثمار في لبنان فور تأمين بيئة الاستثمار اللازمة، كما أن مشكلة لبنان ليست في وضع الخطط بل بتطبيقها وبوجود قرار سياسي ونيّة سياسية للسير بها، معتبراً أن لبنان يملك الإمكانيات والطاقات لكي يصبح شبيهاً بسنغافورة.
اقتصاد المعرفة والتكنولوجيا
من جهته، اعتبر عميد كلية إدارة الأعمال في الجامعة الأميركية للتكنولوجيا بيار الخوري أنه في ظل التحولات العميقة التي يشهدها الاقتصاد العالمي، تتطلب الأزمة الاقتصادية في لبنان إعادة تعريف لدور الاقتصاد ووظيفته المستقبلية. لم يعد من الممكن للبنان أن يستمر كبلد يعتمد على السياحة والخدمات فقط، وهي القطاعات التي شكلت ركيزة أساسية لاقتصاده في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي. مؤكدا لـ “نداء الوطن” أن الاقتصاد الجديد، القائم على المعرفة والتكنولوجيا، يفتح آفاقاً وفرصاً مختلفة جذرياً، تفرض على لبنان إعادة النظر في خياراته الاقتصادية التقليدية التي أظهرت هشاشتها أمام التحديات الحالية.
ورأى الخوري أن لبنان بحاجة إلى مقاربة شاملة تهدف إلى تنويع الاقتصاد والاستفادة من الثورة التكنولوجية التي أصبحت المحرك الأساسي للنمو العالمي، مشيراً إلى أنه يجب تعزيز اقتصاد المعرفة من خلال الاستثمار في التعليم النوعي، خاصة في مجالات التكنولوجيا والابتكار، وتوفير بنية تحتية رقمية متقدمة تدعم الشركات الناشئة ورواد الأعمال. هذا النوع من الاقتصاد يتيح للبنان فرصة للخروج من أزمته عبر خلق قيمة مضافة حقيقية وتحقيق ارتباط أكبر بالأسواق العالمية.
من جهة أخرى، أكد أنه لا يمكن للبنان تجاهل القطاعات الإنتاجية مثل الصناعة والزراعة، التي تم إهمالها لعقود. مشدداً على أن التحول نحو اقتصاد قائم على الإنتاج والتصدير يتطلب إصلاحات جذرية في البنية التحتية ودعماً موجهاً لتحسين جودة المنتجات الوطنية، وفتح أسواق جديدة عبر اتفاقيات تجارية إقليمية ودولية. كما يجب التركيز على الصناعات التحويلية التي تضيف قيمة مضافة، بما يتماشى مع التوجهات العالمية نحو التصنيع المتقدم.
أما بالنسبة لدور لبنان السابق كملاذ آمن للأموال وملجأ للتهريب الضريبي، فمن الصعب استعادة هذا الدور في ظل فقدان الثقة بالنظام المصرفي اللبناني. مؤكداً أن استعادة الثقة تتطلب إصلاحاً عميقاً للنظام المالي، وإعادة هيكلة المصارف، وضمان حقوق المودعين، واستقرار العملة الوطنية. قائلاً: لكن العالم اليوم لم يعد يحتفي بالمراكز المالية السرية بنفس الطريقة، بل باتت الشفافية والالتزام بالمعايير الدولية هما الأساس لجذب الاستثمارات.
وختم الخوري مؤكداً أن لبنان يقف عند مفترق طرق. اقتصاد الخدمات والسياحة لم يعد كافياً أو مستداماً، في حين أن الفرصة الحقيقية تكمن في الانتقال إلى نموذج اقتصادي حديث يعتمد على الإنتاج والتكنولوجيا. لتحقيق ذلك، يحتاج لبنان إلى رؤية اقتصادية بعيدة المدى، وإرادة سياسية حقيقية، ودعماً دولياً يساعده في إعادة بناء اقتصاده بشكل يتلاءم مع متطلبات القرن الحادي والعشرين.
معالجة العجز البنيوي
وكان النائب الأول لحاكم مصرف لبنان سابقاً رائد شرف الدين قد أعدّ دراسة حول دور اقتصاد المعرفة في تنمية الرأسمال البشري في لبنان في العام 2018، موضحاً أن اقتصاد المعرفة يعتمد على المعرفة والمعلومات ومستويات عالية من المهارة كمحرك رئيسي للنمو الاقتصادي، ويتّسم بالحاجة المتزايدة للوصول السريع إلى كل هذه العناصر من قبل القطاعين العام والخاص. وأشار إلى أنه اقتصاد يتم فيه اكتساب المعرفة وتكوينها ونشرها وتطبيقها لتعزيز التنمية الاقتصادية، بحيث يولي الأهمية في النمو لأصول المعرفة بخلاف الاقتصاد التقليدي الذي يركّز على رأس المال والأصول العامة.
وشرحت الدراسة أن الميزات التفاضلية والخطوات المطلوبة لتعزيز البيئة المعرفية في لبنان بالرغم من الأزمات السياسية والعوائق الاقتصادية والنزاعات الاقليمية التي مرّ بها البلد، يحافظ لبنان على ميزات تفاضلية تشكّل عناصر قوّة وفرصاً واعدة إذا أُحسن البناء عليها والاستفادة منها وأهمها: الرأس المال البشري، توفّر نظام تعليمي ومجتمع علمي ذي سمعة جيدة، نشوء صناعة التكنولوجيا المبتكرة من التكنولوجيا العالية التقنية وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات واتجاهها نحو التصدير إلى الأسواق الخارجية، وثروة اغترابية تتمثّل بالجاليات اللبنانية الكبيرة المنتشرة في أصقاع العالم، والتي يمكن أن تشكّل وكيلاً تنموياً للبنان عبر إمداده بالاستثمارات والتقنيات الإنتاجية الحديثة ووسائط التواصل مع الطاقات الاقتصادية الخارجية.
ورأى شرف الدين أنه يجب البناء على هذه الميزات التفاضلية للانتقال بالاقتصاد من نمط الاقتصاد القائم على استخدام التدفقات المالية الكثيفة من الخارج، في تمويل أنشطة ريعية على حساب الأنشطة الاقتصادية الإنتاجية، إلى نمط اقتصادي معرفي وحديث يوفّر الأرضية الصالحة للتغلّب على العجز البنيوي.
يبقى السؤال هل سينقل العهد الجديد لبنان الذي جاء في المرتبة الخامسة عربياً و81 عالمياً في سلم مؤشر المعرفة العالمي لعام 2024، إلى المراكز الأولى متفوّقاً على الإمارات وقطر والسعودية وسلطنة عمان التي سبقته في الأعوام الماضية؟