«العقد الاجتماعي» والمرونة
مع بدء العهد الجديد، هل يمكن اعتبار اقتصاد لبنان مرن Resilient والى أي درجة؟ هل يستطيع النهوض بسرعة مع تسلم الحكومة الجديدة مهماتها؟ هذا ما حصل بعد أزمات عديدة سابقة؟ هل ما زال اقتصادنا يتمتع بالمرونة المطلوبة للنهوض بعد أزمة قاسية مستمرة؟ المرونة أهم من الصمود، اذ هنالك اقتصادات تصمد وتواجه لكنها لا تستطيع النهوض، فتبقى تعيش مع أزمات متتالية ومستويات معيشية غير مرضية. مصادر أزمات لبنان متنوعة لكن أخطرها السياسية المرتبطة بالأزمات الاقليمية المعقدة كالقضية الفلسطينية وأزمة اللاجئين والصراعات السياسية الدينية التي تحيي العواطف وتحرك الشوارع وتعمق الخلافات وتطيل عمرها.
من الخطاء تطوير المجتمعات فقط عبر حمايتها من المخاطر، اذ لا يمكن حصر كل التحديات المحتملة مهما اجتهدنا لأن المفاجاءات دائما موجودة. يكمن الحل في تقوية مرونة الاقتصاد كي يواجه الأزمات بأقل تكلفة بشرية ومادية ممكنة ليقوم من جديد. أعطتنا جائحة الكورونا دروسا قيمة حول كيفية التحضير لأزمات مماثلة وطنية أو دولية في المستقبل حتى تكون التكلفة أقل. شعرنا جميعا وفي كل المجتمعات أننا لم نكن جاهزين لمواجهة الجائحة، وبالتالي حصلت خسائر كبرى في البشر والحجر لم يكن ضروريا أن تحصل. تعافينا من الكورونا لكن مدة التعافي كلفتنا الكثير وفرضت علينا كمجتمعات تغيييرات كبيرة في طرق العمل وطريقة العيش لا نعرف اذا ستكون دائمة وصالحة لمواجهة أزمات مماثلة. لذا المطلوب تحضير المجتمعات لأزمات كبيرة يمكن أن تحصل حتى تكون الخسائر أدنى والأوجاع أقل.
هل يمكن وصف اقتصاد لبنان بالمرن؟ تشير الوقائع السابقة الى ذلك أي الى قيامة الاقتصاد اللبناني بسرعة مقبولة بعد انتهاء الأزمات المتكررة. نجحنا في اعتماد سياسات جديدة بعد كل أزمة جدية، لكننا لم ننجح بعد في خلق آليات وقائية لا تمنع حصول الأزمات لكنها تخفف الخسائر خلالها وبعدها. اتفاقية الطائف مثلا أنهت الحرب ووضعت لبنان على سكة النهوض. لم تحسن المؤسسات الرسمية كما المسؤولون السياسيون ادارة الدولة لتجنب مشاكل جديدة، فوقعنا في أزمات ربما أقل حدة لكنها جدية فعرقلت مسيرة النمو.
الفراغات الرئاسية والحكومية المتكررة لا تشبه الحروب لكنها مهمة وتشير الى مشاكل عميقة داخل المجتمع لم نجد حلولا لها بعد. تشير الى عدم قدرتنا كلبنانيين على التحاور الايجابي لحل الخلافات، فتحصل صراعات سياسية وأحيانا أمنية حادة تعيدنا كثيرا الى الوراء. كل أزمة تخسرنا الكثير حتى لو استطعنا النهوض بعد فترة قصيرة لأنه لا يمكن تعويض كل الخسائر خاصة البشرية منها. مجموع هذه الأزمات كلفتنا خسائر اقتصادية ومالية وخاصة انسانية باهظة أي هجرة الشباب والشابات الى بلاد الاغتراب أحيانا للعمل وأحيانا أخرى للسكن مباشرة أو بعد محطات عمل خارجية.
كي يتعافى الاقتصاد ويبقى كذلك لفترة طويلة يجب على الحكومات وضع عقد اجتماعي واضح ومقنع يقبل به الجميع، اذ لا يمكن ترك لبنان في وضع فوضى وضياع. هدف العقد الاجتماعي كما وصفه المفكر «جان جاك روسو» تقوية العلاقات بين أقسام المجتمع عبر آليات تنظم العلاقات وتحل الخلافات دون احداث تفسخ كبير داخل المجتمع. لأن من المستحيل عدم حصول خضات اجتماعية كبيرة تأتي من الداخل والخارج، علينا بناء الاقتصاد المرن الذي يحمينا من المخاطر الالكترونية بالاضافة الى المساوىء التي تأتي من سوء استعمال الذكاء الاصطناعي. يتطلب الاقتصاد المرن أجوبة واضحة لكل التحديات كما عقول منفتحة على جميع الأفكار بالاضافة الى بناء احتياطي نقدي واقتصادي يكفي للنهوض بسرعة بعد انتهاء الحروب والأزمات.
نشر كتاب روسو «العقد الاجتماعي» في 1762، حيث قال فيه ان العقد الاجتماعي يجب أن يرتكز على الارادة العامة للشعب حيث يتنازل الأفراد عن مصلحتهم الذاتية من أجل الصالح العام. عندما تنتهي حربنا الحالية، لن يكون النهوض سهلا ليس فقط لأن الحرب دمرت الكثير وانما أيضا لأننا لم نبن مناعات اقتصادية وأمنية كافية. كان وضعنا الاقتصادي سيئا قبل بدء الحرب وكنا كمجتمع نعاني من التعب الفكري والنفسي والمادي قبلها. لكن الرغبة بالنهوض موجودة ويجب تفعيلها دون أن ننسى دور المساعدات المالية والتقنية التي نأمل أن تأتي بسرعة مع العهد الجديد. نعي أن الحواجز أمام بناء مرونة الاقتصاد هي داخلية قبل أن تكون خارجية، والدليل على ذلك الفراغات السياسية والقرارات التي لا تتخذ في وقتها حتى لو كانت مناسبة. للنهوض بعد أزمتنا الحالية نحتاج الى وضع وتنفيذ أفكار جديدة مع قيادات جديدة تحوذ على ثقة المواطن اللبناني الذي يعاني. واجب القيادات الجديدة التواصل مع المجتمع الدولي بلغة ذكية واضحة كما من واجب السياسيين التحاور لتحقيق السلم الأهلي. الحرب الحالية ربما تؤجل اتخاذ القرارات الضرورية لكنها لن تلغي الحاجة لها.
باختصار الاقتصاد المرن يتطلب تعاون المواطنين والمؤسسات لخلق ديناميكية تحمي التجدد داخل القطاعين العام والخاص وتبني دائما للمستقبل خاصة بعد الأزمات الموجعة. من دون هذه المرونة لا يمكن النهوض بعد الأزمات مع كل النوايا الحسنة التي يمكن أن تتوافر في الداخل والخارج. بناء العقد الاجتماعي يجمع الجهود ويوحدها لهدف واحد هو المصلحة العامة. من الأمثلة الحديثة هي دراسة ما الذي أهمل قبل الكورونا حتى أصيب المجتمع المحلي والدولي بكل الكوارث التي حصلت. ما هي الأمور والسياسات التي كان من الممكن وضعها لتخفيف حدة ومساوئ الكورونا؟ كيف يمكن تجهيز المجتمعات قبل وخلال أزمة الكورونا حتى تكون وطأتها أقل وجعا اذا ما تكررت. هدف بناء الاقتصاد المرن النجاح في مواجهة الأزمات المستقبلية بأقل تكلفة وأسرع وقت. المهم الاقتناع بالفكرة حتى نستطيع النجاح في البناء الصلب وثم ايصال لبنان تدريجيا الى شاطئ الآمان والازدهار.