حروب المنطقة وحدودها الاقتصادية بقلم العميد الدكتور غازي محمود
يعود الاهتمام المستجد بالحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط الى ما اسفرت عنه تقديرات هيئة المسح الجيولوجي الأميركية (United States Geological Survey, USGS) للموارد الهيدروكربونية غير المكتشفة والقابلة للاسترداد تقنياً في هذا الحوض، وذلك في إطار تقييمها للبترول العالمي في تموز/يوليو من العام 2021. حيث قدّرت متوسط الموارد النفطية بـ 960 مليون برميل، أما متوسط حجم الموارد من الغاز الطبيعي فقدرته بـ 316.25 تريليون قدم مكعب TCFG)). بالإضافة إلى موارد من الغاز الطبيعي السائل، يبلغ متوسطها 2348 مليون برميل (MMBNGL).
وقد بلغت الاحتياطات المكتشفة والمؤكدة من الغاز الطبيعي بحلول العام 2019، ما يُقارب الـ 82 تريليون قدم مكعب (Tcf)، في المناطق الاقتصادية الخالصة من الحوض الشرقي لكلٍّ من مصر في حقل ظُهر، وقبرص في حقل أفروديت، وحقلي تامار وليفياثان في إسرائيل، وهي مرشّحة إلى المزيد من الارتفاع مع حقل كاريش، الذي شكّل آخر اكتشافات ذلك العام. الامر الذي سمح بتحويل جزء كبير من من تقديرات هيئة المسح الجيولوجي الأميركية إلى حقيقة ملموسة.
وتأتي هذه الاكتشافات لتُضاف الى رصيد منطقة الشرق الأوسط ولتزيد من أهميتها، مع العلم أن حوالي 47% من احتياطي النفط العالمي بالإضافة الى 41% من احتياطي الغاز يتركز فيها. إلا أن الاكتشافات الأخيرة نقلت التسابق على مصادر الطاقة من منطقة الخليج العربي واحتياطاتها الهائلة، الى الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط الواقع على تقاطع قارات آسيا وأوروبا وإفريقيا، والذي يضم اهم طرق التجارة العالمية لا سيما مضائق السويس والبوسفور وجبل طارق.
في المقابل، تتصاعد حدة التوتر بين دول العالم على وقع حروب الطاقة التي تسببت بتغيرات جذرية في التحالفات الدولية، وأعادت صياغة السياسات الإستراتيجية للدول لتتناسب مع جغرافية الطاقة المستجدة. وذلك لما تُشكله الطاقة من أبعاد اقتصادية محورية في الاقتصادات الحديثة، فيما الهدف من الحروب والدافع الأساسي اليها هو الاقتصاد من خلال السيطرة على الموارد والثروات. ولا تخرج الحروب المتنقلة في منطقة الشرق الأوسط عن سياق غيرها من الحروب التي تهدف الى السيطرة على مصادر الطاقة، وفي الحد الأدنى تامين ديمومة الوصول اليها واستمرار امداداتها.
وكان الرهان على أن تُساهم اكتشافات الغاز في الحوض الشرقي للمتوسط في إحداث تغيير في العلاقات الاقتصادية فيما بين دولها وصولاً الى إحداث تغيير جيوسياسي يحمي سوق الطاقة في المنطقة. وذلك من ضمن رؤية أطلقتها الولايات المتحدة تحت مُسمى “دبلوماسية الغاز”، وتهدف إلى استخدام الثروة الجديدة في المنطقة لجمع بلدانها المتصارعة على طاولة المفاوضات، إلا أن استمرار النزاعات الإقليمية وتعقيداتها حالت دونها. كما تسببت الحرب الروسية الأوكرانية بضرب الاستقرار النسبي في سوق الموارد النفطية لتعود وتطغى حروب الطاقة على “دبلوماسية الغاز”.
ولعل التطور الأبرز في حروب الطاقة هذه، سعي الولايات المتحدة الأميركية الى تضييق الخناق الأوروبي على الغاز الروسي والإيراني. مع العلم ان هذه الحرب لا تقتصر على الولايات المتحدة وأوروبا من ناحية وروسيا وإيران من ناحية ثانية، إنما تشمل أيضاً كل من السعودية وقطر ومصر وتركيا وإسرائيل وقبرص والصين وغيرها، الامر الذي يُنذر بتصاعد التوتر ويُهدد السلم العالمي. في وقتٍ تسعى روسيا وفي خضم العقوبات التي تواجهها، الى المحافظة على موقعها كمصدر رئيسي للغاز الطبيعي الى أوروبا عبر إعادة صياغة تحالفاتها ومصالحها الإستراتيجية مع القارة الأوروبية.
في المقابل تُحتّم الوقائع المتسارعة أن تبحث دول الاتحاد الأوروبي عن مصادر جديدة لتلبية احتياجاتها من الطاقة على المدى المتوسط، غير تلك الموجودة على الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط. سيما وأن احتياطات دول حوض شرق المتوسط التي تم اكتشاف الغاز فيها باستثناء إسرائيل، لم تتمكن من أن تُشكل مصدراً دائماً وموثوقاً على غرار مصر التي تراجع انتاجها من الغاز الطبيعي، فيما لم تتمكن دول أخرى مثل لبنان من التنقيب للوصول الى آبارٍ منتجة.
كما لم يحل توافر الموارد في دول المنطقة ولا سيما منها إسرائيل دون استمرار أطماعها في ثروة المنطقة، حيث يُمثل منع الفلسطينيين من استثمار حقل مارين الذي تم اكتشافه قُبالة شاطئ غزة في العام 2000، دليلاً على اطماعها وسبباً من أسباب حربها على قطاع غزة. ما يطرح السؤال ما إذا كانت الاهداف الاقتصادية ستُعيد ترتيب الأولويات وتحول دون استمرار الحروب العسكرية والاستعاضة عنها بحروب الطاقة، التي قد لا تكون أقل ضرراً على اقتصادات الدول المعنية من الحروب العسكرية.
ومن المفارقات أن المواجهات التي دارت بين العدو الإسرائيلي وحزب الله على مدى يزيد عن الثلاثة عشر شهراً، والتي تسببت بدمار في القرى والمدن اللبنانية الحدودية وفي المستوطنات الإسرائيلية على حدٍ سواء، لم تشمل حقول غاز العدو البحرية التي بقيت بمأمن من صواريخ المقاومة. وذلك على الرغم من تصعيد إسرائيل لعدوانها الهمجي والمدمر على لبنان خلال الثلاثة اشهر الاخيرة، الامر الذي يطرح تساؤلات حول هوامش المواجهات العسكرية في منطقة الشرق الأوسط، وما المسموح منها وما هو غير مسموح.
والحدود المفروضة على حروب النفط والغاز، تُعيد الى الاذهان منع الولايات المتحدة الأميركية لإسرائيل من ضرب المرافق النفطية الإيرانية في ردها الاخير على مهاجمة ايران لها. وكذلك تنطبق حدود حروب النفط والغاز على الغاز الروسي الذي لا يزال يتدفق الى أوروبا عبر الأراضي الأوكرانية وإن بكمياتٍ أقل، على الرغم من العقوبات الأوروبية من ناحية، ومن الحرب الضروس التي تدور بين البلدين من ناحية ثانية.
إذاً هي معادلات جديدة في العلاقات الدولية تفرضها الطاقة على الدول المصدرة والمستوردة على حدٍ سواء، معادلة يُمكن اختصارها بأولوية استقرار امدادات الطاقة وبالتالي استقرار الاقتصاد العالمي على غيرها من الاعتبارات. ولعل هذا يُفسر أيضاً استقرار أسعار النفط والغاز ضمن هوامش متقاربة، على الرغم من الحروب التي تدور رحاها على جبهات الطاقة نفسها والجبهات العسكرية.