العدوان الإسرائيلي واحتياطات مصرف لبنان
بقلم العميد الدكتور غازي محمود
في الوقت الذي يصعب فيه تقدير قيمة الخسائر المباشرة منها وغير المباشرة، التي يتكبدها الاقتصاد الوطني جراء العدوان الهمجي الإسرائيلي على لبنان، أظهر بيان الوضع المالي أو ما يُعرف بالموازنة النصف شهرية عن النصف الأول من شهر تشرين الأول الصادرة عن مصرف لبنان انخفاض احتياطاته من العملات الأجنبية بمبلغ يزيد على الـ 341 مليون دولار أميركي. تبعه انخفاض جديد وإن بوتيرة ادنى، سجلته موازنة النصف الثاني من الشهر ذاته بأكثر من 92 مليون دولار ويفوق مجموعها الـ 433 مليون دولار أميركي.
وخلافاً للمزاعم التي اعتبرت أن الانخفاض في احتياطات مصرف لبنان من العملات الاجنبية سببه دعم استقرار سعر الصرف، تُظهر مراجعة مدفوعات وتحويلات مصرف لبنان أن سبب هذا الانخفاض هو تطبيق تعميم مصرف لبنان الذي قضى بتسديد ثلاث دفعات للمودعين المستفيدين من التعاميم ذات الارقام 158 و166، والمتعلقة بالسحوبات من الودائع بالدولار الأميركي، عن شهر تشرين الأول بلغت قيمتها ما لا يقل عن 180 مليون دولار أميركي.
ومن أسباب الانخفاض أيضاً تغطية مصرف لبنان ما يقارب الـ 150 مليون دولار المترتبة عن فروقات الزيادات على رواتب وأجور القطاع العام التي تم دفعها في مطلع شهر تشرين الثاني الحالي. اما كلفة السحوبات بموجب التعميمين اعلاه عن شهر تشرين الثاني، فقد انخفضت الى 120 مليون دولار نتيجة تخفيض عدد السحوبات الى اثنتين.
في المقابل، اقتصر تراجع احتياطات مصرف لبنان من العملات الأجنبية خلال النصف الأول من شهر تشرين الثاني على مبلغ يزيد قليلاً عن 66 مليون دولار أميركي، بحسب موازنة المصرف، ما يؤكد استمرار سيطرة مصرف لبنان وقدرته على تعويض الجزء الأكبر من مدفوعاته بالعملات الأجنبية. في حين بلغ مجموع ما ضخه مصرف لبنان في الأسواق خلال شهري تشرين الأول وتشرين الثاني قُرابة الـ 570 مليون دولار.
مع العلم أن هذا الاحتياطي كان قد عرف تراجعاً محدوداً في شهر حزيران/يونيو الماضي، حيث انخفض بنحو 22 مليون دولار أميركي، ليصبح حجم الاحتياطات المتبقية قُرابة الـ 10.11 مليار دولار أميركي. في المقابل، كانت احتياطات مصرف لبنان من العملات الاجنبية تتزايد بشكل مضطرد منذ شهر آب/أغسطس من العام 2023 بقرابة الـ 2.1 مليار دولار أميركي لتبلغ في نهاية شهر أيلول ما يزيد على 10.8 مليار دولار، وذلك نتيجة الإجراءات التي اتخذها حاكم مصرف لبنان بالإنابة وقرار الامتناع عن تمويل الحكومة.
وتجدر الإشارة الى أن ودائع القطاع العام المتأتية من الإيرادات العامة التي يتم ايداعها في حسابات الدولة في مصرف لبنان لا سيما الحساب 36، تُساهم في تعزيز موجودات المصرف من العملات الأجنبية، خاصة بعد العمل بتسديد الرسوم بالدولار الأميركي، الى جانب عمليات الشراء التي يقوم بها المصرف. وبالتالي فإن سبب انخفاض هذه الاحتياطات ناتج عن تزامن استحقاقات فروقات الرواتب والأجور بالإضافة الى رفع قيمة سحوبات التعميمين من ناحية، مع تداعيات العدوان الإسرائيلي على لبنان وتراجع الإيرادات العامة من ناحيةٍ ثانية.
إلا أنه وعلى الرغم من أن مصرف لبنان تمكن من إعادة تكوين احتياطاته بالعملات الاجنبية بنسبة عالية قاربت الـ 24 بالمئة وخلال فترة قياسية لم تتجاوز السنة الواحدة، يبقى مجموع هذه الاحتياطات ادنى من قيمة الاحتياطي الإلزامي الذي يتوجب على مصرف لبنان الاحتفاظ به وفقاً لقانون النقد والتسليف. اما التغاضي عن تطبيق هذا الموجب القانوني ما كان ليمر لولا التحديات المالية والاقتصادية التي حالت دون بلوغ سقف الاحتياطي المطلوب، وأولوية المحافظة على استقرار سعر صرف الليرة اللبنانية.
غير أن انخفاض احتياطي العملات الأجنبية لمصرف لبنان الذي بدأ منذ تشرين أول الماضي وإن بشكل تراجعي، يطرح السؤال حول قدرة المصرف على الاستمرار في إعادة تكوين هذه الاحتياطات مع استمرار العدوان الذي يُخشى أن يؤدي الى تراجع الجبايات وبالتالي الى انخفاض الإيرادات العامة، مع العلم أن ودائع القطاع عادت لترتفع وفقاً لموازنة النصف الأول من الشهر الحالي.
اما التدفقات المالية الخارجية فتشهد شحاً ملحوظاً، ويحاذر المغتربون الذين يُعول على نفقاتهم القدوم الى لبنان اليوم، حيث خسر لبنان إيرادات موسم الصيف فيما إيرادات موسم الشتاء في مهب الريح. ولا يقتصر الامر على عدم مجيء السياح والمغتربين، لا بل ينضم اليهم في بلاد الاغتراب كل يوم اعداد جديدة من المقيمين منذ الثامن من تشرين الثاني الماضي غالبيتهم من الشباب.
ولا يقتصر السؤال على إعادة تكوين الودائع وحسب، بل يشمل قدرة المصرف على الاستمرار في تسديد الودائع التي أضحت أكثر الحاحاً مع نزوح ما يزيد على مليون ومئتي ألف نازح، والذين تضررت منازلهم وتوقفت أعمالهم بشكل جزئي أو كلي. وذلك في وقتٍ من المتوقع أن يرتفع الإنفاق العام للمساهمة في تلبية متطلبات هذا النزوح، في مقابل الشح في ايرادات الحساب رقم 36. الامر الذي قد يدفع الحكومة الى الطلب من مصرف لبنان تمويل النفقات العامة مجدداً، ويطرح بالتالي السؤال عن مدى إمكانية استمرار حاكم مصرف لبنان بالإنابة الالتزام بقرار عدم تمويل الدولة.
في المقابل، وعلى الرغم من أهمية السياسات النقدية التي يعتمدها مصرف لبنان والتزام حاكميته بعدم تمويل الدولة، إلا أنه لا بد من أن تُلاقي حكومة تصريف الاعمال مصرف لبنان بسياسة مالية تدعم جهود مصرف لبنان في إعادة الودائع وتوسيع قاعدة المستفيدين وتعزيز الإجراءات التي تُعيد ثقة المستثمرين بالاقتصاد الوطني. ذلك أن السياسات النقدية لا يُمكن أن تحل مكان السياسات المالية ولا أن تعوض غيابها، لا بل لا بد من أن تكون السياسة النقدية ترجمةً للسياسة المالية ومتكاملة معها.
ويبقى الرهان على وقف العدوان الإسرائيلي على لبنان وتحقيق وقف دائم لإطلاق النار في اقرب وقت ممكن، للحد من مضاعفات الحرب التدميرية على البشر والحجر، والحؤول دن تضاعف حجم المتطلبات المالية لتعويضها. فبعد قُرابة الأربعة عشر شهراً من العدوان لا بد من حلٍ يمنح الدولة والمجتمع فرصةً لإعادة بناء ما تهدم ويُسرّع التعافِ على المستويين الوطني والاقتصادي.
وبالتزامن مع وقف النار، لا بد من إعادة انتظام عمل المؤسسات وفي مقدمتها انهاء الشغور الرئاسي، واستعادة الدولة لمسؤولياتها في الدفاع عن حدود الوطن وحفظ الامن وتحقيق سيادة القانون. ذلك أن مصلحة لبنان ومقاومته تكمن في وقف اطلاق النار حفاظاً على ما تبقى من مقدرات استراتيجية وبشرية عوض أن يستمر القتال بمن وما تبقى. فالحفاظ على احتياطات مصرف لبنان كما صون المقدرات ومواجهة الأزمات المالية والاقتصادية، تتطلب استقراراً سياسياً وأمنياً عسى أن يكون قد اصبح قريب المنال.
٢٠/١١/٢٠٢٤