خلل مصرفي عالمي

 

لا تحصل أزمة اقتصادية في العالم من دون أن يكون للقطاع المصرفي الوطني والدولي حصة سلبية أساسية فيها. أزمة 2007\2009 الأميركية العالمية حصلت بعمق بعد سقوط مصرف «ليمان» وغيره من المؤسسات المصرفية التاريخية العريقة. في لبنان سقط الاقتصاد بسبب الفساد أولا في القطاع العام وثم في القطاع الخاص. تهورت المصارف في اقراضها وحلمت بمساعدة مصرف لبنان الذي لم يكن بمستوى التحديات والمسؤوليات. الاقراض المتهور سبب سقوط الودائع دون أن يعني ذلك أنها طارت الى الأبد. لا يمكن للبنان أن يتعافى من دون اعادة كل الودائع الى أصحابها. هذا لن يحصل قبل ملئ الفراغات السياسية والاتفاق مع صندوق النقد الدولي ومن ثم ستعاد الودائع تدريجيا الى أصحابها. سؤ تصرف المصارف في كل الأنظمة الاقتصادية هو معروف ويدخل في صلب عملها، وهنالك دول قليلة جدا محظوظة لم تحدث فيها أزمات مصرفية.

بسبب الأزمات المصرفية المتنوعة والمتكررة، هنالك قلق عالمي تجاه المصارف ينعكس سلبا على الثقة بها وباداراتها وسلامة أعمالها. عندما يسأل المواطنون في عديد من دول العالم عن ثقتهم بالمؤسسات والتصرفات والقيادات، يأتي السياسيون في أسفل السلم ولا يبتعد عنهم كثيرا المصرفيون. بالرغم من ضعف ثقة المواطنين بالمصارف، يستمرون في الاستفادة من خدماتها للحاجة ولضرورات العمل في الاستهلاك والاستثمارات. فالمصارف «شر لا بد منه» لكن المواطن يبقى متأملا الخير والسلامة من التعامل معها بالرغم من الوقائع التي لا تعزز هذا الشعور. الوضع المصرفي مسؤول عن تحول الاقتصاد العالمي الى نقدي لأن المواطن لم يعد يتحمل مغامرات المصرفيين.

هنالك 5 أسئلة يجب الاجابة عنها لتقييم العمل المصرفي التجاري ولمعرفة درجة المخاطر التي تتحكم بعملها في كل الدول.

أولا: هل يتقاضى المصرفيون أجور ومنافع مرتفعة، أعلى بدرجات من المهن المماثلة وهل يستحقون تلك الأجور مقارنة بانتاجية أعمالهم وسلامتها؟ تشير الاحصائيات والمعلومات الى أن أجور ومنافع موظفي المصارف أعلى بكثير من متوسط أجور ومنافع المهن المشابهة في قطاعات ليست بعيدة عنها كالتأمين والتكنولوجيا والصحة والسياحة وغيرها. لا تكمن المشكلة الحقيقية في مستوى الأجور والمنافع حتى لو كانت مرتفعة وغير مبررة، وانما فيما يقدمون للمواطن وأصحاب الأسهم مقابل ذلك. في المقارنة مع القطاعات المهمة الأخرى تسقط المصارف ويخسر أصحاب الأسهم كما الزبائن والمودعين خاصة.

ثانيا: هل يمكن للمصارف أن تصحح أوضاعها من الداخل أو لا بد من تدخلات خارجية لمراقبة الأعمال والسلامة. تشير كل الوقائع الى أنه لا يمكن ترك المصارف تعمل من دون رقابة جدية من الخارج أي من المصارف المركزية ومن خبراء المحاسبة ومن بقية المؤسسات المتنوعة التي تختلف مهماتها من دولة الى أخرى. في الولايات المتحدة، حصلت كارثة 2007\2008 بسبب عدم قيام أجهزة الرقابة بواجباتها تجاه المواطنين وأصحاب الودائع. مؤسسات الرقابة تقول ان ادارة الرئيس بوش طلبت منها بشكل أو آخر غض النظر عن التهور والمخالفات طالما أن النتائج المالية مرتفعة. لا بد من وجود أجهزة رقابة تعمل واجباتها دون أي تدخل في أعمالها. هذا يعني أيضا أن المصارف لن تصحح نفسها ولا بد من تدخل الأجهزة الرسمية لدفها نحو تطبيق مؤشرات السلامة المعتمدة دوليا. في لبنان، أعمال الرقابة المصرفية الرسمية كانت ضعيفة بالرغم من وجود رقابة خاصة داخلية وخارجية. الوهج غير المبرر الذي كان يتمتع به مصرف لبنان غطى على كل معايير واجراءات الرقابة والسلامة وبالتالي ذهبنا نحو المجهول.

ثالثا: هل يمكن لأصحاب المصارف أن يقوموا بالاصلاحات اللازمة بالتعاون مع الزبائن الذين يمكن أن يضغطوا على الادارة لتقوية السلامة المالية؟ تشير التجارب الى صعوبة ذلك لأن العديد من أصحاب الأسهم كما العدد الأكبر من الزبائن المودعين والمقترضين لا يملكون الكفاءة التقنية لتحسين أوضاع المصارف وتطوير أعمالها. من الأفضل أن تتم الاستفادة من الخبراء أو من شركات الاستشارات لتحسين الأوضاع العامة للمؤسسات وليس المالية فقط.

رابعا: هل يمكن للقطاع العام وأجهزة الرقابة أن يقوموا باصلاح المصارف؟ يمكن ذلك اذا لم يكن موجودا تضارب مصالح يحصل عندما يملك المصرف مسؤولون حكوميون أو رسميون كبار. في دولة يغيب عنها الفساد أو يكون ضعيفا، تلعب الأجهزة الرسمية دورا كبيرا في تصحيح عمل المصارف عبر قوانين وقرارات تصب في مصلحة الاقتصاد والرأي العام والمواطن. في لبنان، تضارب المصالح موجود في كل القطاعات وخاصة المصرفي ويتم تجاهله.

خامسا: هل يمكن توقع حصول أزمات مصرفية مستقبلية أم أن هذا أصبح مستحيلا؟ جميع التجارب السابقة تشير الى امكانية التكرار خاصة بسبب الفساد والقوانين والاجراءات التي تسمح كلها عن قصد أو غير قصد لأصحاب الجشع باستغلال براءة المواطن لتحقيق أرباح كبيرة. مهما كانت الاجراءات صارمة لا يمكن القول أن الأزمات العميقة لن تتكرر بل العكس صحيح.

الضمانة الوحيدة لحسن عمل المصارف هي نوعية الأشخاص الذين يديرونها من ناحيتي الخبرة والنزاهة. عانى كل العالم من مديري مصارف برهنوا للجميع أن ما يهمهم هو تحقيق أعلى أرباح لهم وليس بالضرورة للزبائن. هنالك جشع كبير عند بعض المسؤولين المصرفيين، لذا يجب التنبه لقراراتهم. هنا تكمن أهمية الرقابة الداخلية والخارجية. للأسف كان القطاع المصرفي عالميا مضرب مثل للقطاع الأبيض المنتج وأصبح اليوم عكس ذلك تماما. اذا استمر القطاع المصرفي على ما هو عليه، سيتأثر سلبا الاقتصاد الدولي من ناحيتي التبادلين المالي والتجاري.

سقوط القطاع المصرفي العالمي بالاضافة الى ضعف النمو الاقتصادي يرفعان مستوى المخاطر العامة. ما يحصل اليوم هو ليس نتيجة أخطاء من أشخاص، بل ربما نتيجة خلل في الأنظمة العامة يهدد الاستقرار الاجتماعي في كل الدول.

Leave A Reply

Your email address will not be published.