الأزمة الاقتصادية في لبنان: واقعٌ مرير وتحدّيات مستقبلية
يواجه لبنان منذ عام 2019 أزمة اقتصادية خانقة تُعدّ الأسوأ في تاريخه المعاصر، حيث تداخلت عوامل عدة أدّت إلى انهيار اقتصادي شامل، جعل الدولة على حافة الانهيار المالي. بدأت هذه الأزمة نتيجة لعقود من سوء الإدارة الاقتصادية، الفساد المستشري، وتراكم الديون، إلى جانب تأثير الأحداث الإقليمية والسياسية.
ومع تفاقم الأزمة، باتت الأوضاع المعيشية للسكان أكثر صعوبة، حيث تدهورت قيمة العملة الوطنية بنحو حاد، وارتفعت معدلات البطالة والفقر بنحو غير مسبوق. يُعدّ هذا الانهيار اختباراً حقيقياً لقدرة لبنان على التعافي، وسط غياب حلول سياسية واقتصادية ملموسة حتى الآن.
ـ على صعيد مستويات الفقر: مع انهيار قيمة العملة الوطنية وفقدان الثقة في النظام المصرفي، ارتفعت أسعار السلع الأساسية بمقدار كبير، ما جعل كثير من العائلات غير قادرة على تأمين احتياجاتها اليومية. ووفقاً لتقارير صادرة عن الأمم المتحدة والبنك الدولي، يعيش نحو 80% من السكان في لبنان تحت خط الفقر، مقارنةً بنسبة تقارب 30% قبل الأزمة.
تسبّب الانهيار في قيمة اللّيرة اللبنانية في ارتفاع الأسعار بمقدار هائل، ما جعل حتى السلع الأساسية كالغذاء والمأوى واللباس غير متاحة لشريحة واسعة من المواطنين. كما ارتفعت البطالة بنحو حاد، حيث أصبح كثير من الأفراد، ومن بينهم خريجو الجامعات، غير قادرين على العثور على وظائف.
ـ على صعيد الصحة النفسية: كان للأزمة الاقتصادية تأثير مدمّر على الصحة النفسية للبنانيين. فقد أصبح القلق والاكتئاب والتوتر أموراً شائعة بين جميع شرائح المجتمع. فقدان الوظائف، نقص الأموال، وعدم القدرة على تلبية الاحتياجات اليومية زاد من مشاعر الإحباط واليأس لدى المواطنين، بالأخص عند فئة الشباب التي تطمح لبناء مستقبل لامع. كما أنّ بعض الأفراد، وخصوصاً أولئك الذين يعيلون عائلات، يواجهون ضغوطاً نفسية هائلة بسبب الصعوبات الاقتصادية. وقد أظهرت دراسات محلّية زيادة في عدد الأشخاص الذين يلجأون إلى المراكز الطبّية طلباً للدعم النفسي والعلاج من مشكلات متعلّقة بالضغوط النفسية. إلّا أنّ الخدمات النفسية، مثلها مثل كثير من الخدمات الأخرى، تعاني من نقص في التمويل والموارد، ما يجعل الوصول إلى الرعاية النفسية محدوداً، إذ لجأ القسم الآخر من الشّبان الى الهجرة هرباً من الأوضاع المأساوية.
ـ على صعيد الوصول إلى الخدمات الأساسية: تسبّبت الأزمة الاقتصادية في لبنان بتدهور كبير في إمكان الوصول إلى الخدمات الأساسية، ما جعل حياة كثيرين أكثر صعوبة وتعقيداً. كما أنّ قطاعات الخدمات العامة، التي كانت تعاني أصلاً من ضعف البنية التحتية والفساد، زادت تدهوراً بفعل الأزمة المالية الخانقة، ومنها:
تدهورت إمدادات المياه بسبب عدم قدرة الدولة على تمويل البنية التحتية وصيانتها. ونتيجة لذلك، يعتمد كثير من المواطنين على شراء المياه من القطاع الخاص، الذي أصبح مكلفاً جداً بسبب التضخم.
كما أنّ النّقص الحادّ في إمدادات الكهرباء، حيث تتجاوز ساعات انقطاع التيار الكهربائي 20 ساعة يومياً في بعض المناطق، أثّر سلباً على كل من المنازل والمصانع والمؤسسات الطّبية، ما يزيد من صعوبة الحياة اليومية ويعوق النشاط الاقتصادي.
كذلك تأثّرت المدارس والجامعات بمقدار كبير، حيث لا يستطيع كثير من الأهالي دفع الرسوم المدرسية أو الجامعية. كما أنّ بعض المؤسسات التعليمية اضطرت إلى الإغلاق أو تقليص أنشطتها بسبب الأزمة المالية، وهنا نرى أنّ الشريحة الأكبر لجأت إلى المدارس والجامعات الرسمية، ما أثّر سلباً على جودة التعليم فيها.
قطاع الصحة أيضاً عانى من نقص حاد في الأدوية والمستلزمات الطبية. حيث أنّ عدداً من المستشفيات تواجه صعوبة في تقديم الرعاية الأساسية للمرضى بسبب نقص التمويل وارتفاع كلفة المستلزمات الطبية المستوردة. وقد أغلقت بعض المستشفيات أقساماً معيّنة أو خفّضت خدماتها نتيجةً لذلك. هذا الوضع جعل النظام الصحي اللبناني على حافة الانهيار، وسط حاجة ماسّة إلى دعم مالي وإصلاحات شاملة لضمان استمرارية تقديم الخدمات الصحية الأساسية.
وأثّرت الأزمة الاقتصادية في لبنان بعمق على كل جوانب الحياة، من ارتفاع معدّلات الفقر إلى تدهور الصحة النفسية وانهيار الخدمات الأساسية. وفي ظل استمرار الأزمة، يحتاج لبنان إلى دعم كبير من المجتمع الدولي لإعادة بناء اقتصاده وتحقيق استقرار اجتماعي يمكّن الأفراد من العيش بكرامة والحصول على الاحتياجات الأساسية.
إنّ حل الأزمة الاقتصادية في لبنان يتطلّب اتخاذ خطوات جذرية وشاملة تشمل إصلاحات اقتصادية وسياسية متكاملة، ترتكز على الشفافية، مكافحة الفساد، وإعادة هيكلة النظام المالي. لا يمكن الخروج من هذه الأزمة من دون تعزيز ثقة المواطنين والمستثمرين في مؤسسات الدولة، وتفعيل سياسات تحفيز النمو الاقتصادي المستدام. كما يتطلّب الأمر دعماً دولياً واستفادة مدروسة من المساعدات الخارجية، مع وضع خطط تنموية تعزّز من الإنتاج المحلي وتقلّل من الاعتماد على الواردات. في النهاية، يتطلّب التعافي قيادة قوية وإرادة حقيقية لتحقيق تغيير جذري يساهم في إعادة بناء اقتصاد مستدام وعادل يضمن حياة كريمة لجميع اللبنانيين، وخطة واضحة لإعادة المهاجرين إلى وطنهم.