التضخم في لبنان الى أين؟
بقلم العميد المتقاعد الدكتور غازي محمود
من اللافت أن ينخفض التغير السنوي لمؤشر أسعار الاستهلاك في لبنان، الذي تُصدره إدارة الإحصاء المركزي، عن شهر آذار/مارس 2024 الى %70,36 بالنسبة للشهر نفسه من العام 2023. سيما وأن هذا الانخفاض يأتي بعد ثلاث سنوات متتالية من الارتفاع المتفلت من اية ضوابط، بلغ اقصاها في شهر آذار/مارس من العام الماضي حيث سجل 84,%263. في وقت لم تعرف أي من مؤشرات الاقتصاد الكلي تحسناً يُذكر منذ بداية الازمة المالية والاقتصادية، بل يتزامن هذا التراجع مع العديد من العوامل الضاغطة باتجاه ارتفاع الأسعار.
ومن هذه العوامل الضاغطة، رفع سعر الدولار الجمركي وسعر الصرف المعتمد لاستيفاء الضرائب والرسوم، ومنها أيضاً رفع جميع الرسوم والضرائب بموجب موازنة العام ٢٠٢٤، وكذلك رفع قيمة عقود الإيجار الجديدة والمجددة. بالإضافة الى ارتفاع تكاليف الشحن البحري وعقود التأمين التي وصلت نسبة ارتفاعها الى قُرابة الـ %15، جراء ارتفاع مخاطر الملاحة في البحر الاحمر.
ولا تقتصر الضغوط التضخمية التي تُساهم في ارتفاع الأسعار على العوامل الداخلية، بل ارتفاع الأسعار في الأسواق العالمية يتسبب أيضاً في ارتفاع الأسعار الداخلية، خاصةً وأن لبنان يستورد معظم حاجاته الاستهلاكية من الأسواق الخارجية. وقد بلغت نسبة واردات لبنان إلى الناتج المحلي الإجمالي الـ 109% في العام 2023، في وقتٍ تشهد أسعار السلع الغذائية حول العالم ارتفاعاً ملحوظاً وتتخطى نسب التضخم الإجمالية عتبة الـ 5%، بحسب تقرير للبنك الدولي حول الامن الغذائي.
وقد سجّل لبنان في الفترة الممتدّة بين شهري كانون الأوّل/ديسمبر 2022 وكانون الأوّل/ديسمبر 2023، ثاني أعلى نسبة تضخم إسميّة في أسعار الغذاء حول العالم حيث بلغت نسبة التغيّر السنويّة في مؤشّر تضخّم أسعار الغذاء %220، تتقدمه الأرجنتين مع نسبة تضخم 251%، وتليه كل من فنزويلا مع نسبة 173%، وتركيا مع نسبة %72. أما لجهة نسبة التضخم الحقيقي، فقد حلّ لبنان في أعلى سابع مرتبة لنسبة التغيّر في أسعار الغذاء على مستوى العالم وبلغت %8، فيما حلت تركيا بعده مع %7، بحسب تقرير للبنك الدولي.
أما السبب المباشر لارتفاع الرقم القياسي لأسعار الاستهلاك عن شهر آذار/مارس 2023، فيعود الى الارتفاع الحاد في سعر صرف الدولار الأميركي مقابل الليرة اللبنانية حيث بلغ قُرابة الـ 140 الف ليرة لبنانية لينخفض الى الـ 107 آلاف ليرة لبنانية، قبل أن يُعاود تراجعه التدريجي ليستقر على سعره الحالي. في المقابل، يظل التراجع الذي سجله المؤشر في آذار/مارس 2024 ذات دلالة اذا ما قورن بالتغير السنوي لهذا المؤشر الذي سجله عن شهر شباط/فبراير 2024 وبلغ الـ 21,123% بالنسبة لنفس الشهر من العام .2023
ويكمن سبب ارتفاع مؤشر أسعار الاستهلاك لشهر آذار/مارس 2024، في الارتفاع الذي طرأ على بعض أبواب الإنفاق لا سيما منها النفقات المتعلقة بخدمات التعليم التي تجاوزت 589%. وكذلك ارتفاع كلفة عقود الإيجار الجديدة التي تجاوزت الـ 212%، فيما يبلغ متوسط المصاريف المتعلقة بالسكن ما يزيد على %108، الامر الذي أدى الى دفع مؤشّر أسعار الاستهلاك للارتفاع.
وكان يُمكن أن يرتفع هذا المؤشر بنسبة أعلى لو أن ارتفاع أسعار المواد الغذائيّة والمشروبات غير الروحيّة تخطى الـ 51%، وكذلك الحال بالنسبة الى أسعار النقل التي اقتصر ارتفاعها على 13% فقط، مقابل ارتفاع الملبوسات الى 39%، والخدمات الصحيّة الى 45%. الامر الذي سمح بتراجع نسبة الزيادة الإجماليّة في مؤشر أسعار الاستهلاك مع الانخفاض الكبير في أسعار باقي النفقات.
في المقابل، كان مؤشر أسعار الاستهلاك يُتابع تقلبه خلال العام 2023 منذ شباط/فبراير وإن بوتيرة ابطأ مما كان عليه في الفترة التي سبقته، حيث ارتفع الى %25,52 بالنسبة لكانون الثاني، والى %33,27 في آذار بالنسبة لشباط من العام نفسه. فيما انخفض هذا المؤشر لشهر حزيران/يونيو من العام نفسه الى %7,21 بالنسبة لشهر أيار/مايو من العام نفسه، وتابع انخفاضه في شهر ايلول ليسجل %1,4 بالنسبة للشهر الذي سبقه.
أما في شهر تشرين الثاني فقد ارتفع المؤشر بشكل طفيف ليبلغ %2,6 بالنسبة لشهر تشرين الأول، ليعود وينخفض في شهر شباط/فبراير من العام 2024 الى %1,06 بالنسبة لشهر كانون الثاني من العام نفسه. فيما سجل مؤشر أسعار الاستهلاك لشهر آذار/مارس 2024 ارتفاعاً الى %1,72 بالنسبة لشهر شباط من العام نفسه، على الرغم من أن شهر آذار/مارس 2024 تميز بانخفاض التغير السنوي لمؤشر أسعار الاستهلاك بالنسبة لآذار/مارس 2023.
وإن دلت هذه الأرقام على شيء فهي تدل على أن مؤشر أسعار الاستهلاك كان يُسجل شهراً بعد شهر، ارتفاعات متتالية ولو بنسبٍ ضئيلة. إلا أن محصلة هذه الارتفاعات هي في نهاية المطاف، زيادة في الأسعار وبالتالي زيادة في معدل التضخم. فقد ارتفع معدل التضخم في شهر آذار/مارس 2024 على سبيل المثال الى %60,26 عما كان عليه خلال شهر شباط /فبراير من العام نفسه. (معدل التضخم يُساوي مؤشر أسعار الاستهلاك الجديد منزلاً منه مؤشر أسعار الاستهلاك السابق مقسوماً على مؤشر أسعار الاستهلاك السابق مضروباً بـ 100).
وعلى الرغم من اهمية الانخفاض الذي طرأ على التغير السنوي لمؤشر أسعار الاستهلاك بين شهري آذار/مارس 2023 و2024، إلا أن معدل التضخم يستمر بالارتفاع مع ما يُشكله هذا الارتفاع من انعكاسات سلبية على القوة الشرائية للعملة الوطنية ويحرم اللبنانيين من حياةٍ كريمة.
ويمكن أن يُصار الى التخفيف من حدة التضخم من خلال زيادة النفقات العامة لتحفيز الاقتصاد الوطني، الامر الذي أصبح الآن بعيد المنال بسبب العجز الدولة المالي. كما يُمكن الحد من التضخم من خلال التحكم في كمية النقد المتداول والحفاظ على استقرار سعر الصرف، وهذا دونه تلبية نفقات الدولة المتزايدة من جهة والزيادات الطارئة على رواتب وأجور موظفي القطاع العام من جهة ثانية.
في المقابل، يُشكل تقهقر القوة الشرائية للّبنانيين وتآكل مداخيلهم دليلاً على استمرار ارتفاع الأسعار سواء كانت بالليرة أو بالدولار، ومؤشراً لتفاقم التضخم زاحفاً كان ام جامحاً. ذلك أن السياسات النقدية لا تعوض لا غياب السياسات المالية ولا عجز مؤسسات الدولة، بل لا بد من أن تتضافر جهود الإدارات المعنية لحل الأزمة المالية والاقتصادية ومعالجة مضاعفاتها لا سيما منها التضخم وتداعياته.
٨/٥/٢٠٢٤