حل ازمة لبنان يبدأ بتصحيح الرواتب
بقلم: غازي محمود
• عميد متقاعد، دكتوراه في الاقتصاد
أثار الكشف عن قرض البنك الدولي لوزارة المالية ووجهة انفاقه لا سيما ما يتعلق منه “بالتمويل المرتبط بشروط حسن الأداء” موجة اعتراضات عارمة، سيما وأن المقصود بتمويل حسن الأداء هو تمويل مكافآت موظفي وزارة المالية او البعض منهم على مدى ثلاث سنوات. مع العلم أن قيمة المكافآت تبلغ ١٢,٣ مليون دولار اميركي وتزيد نسبتها عن ٣٦٪ من قيمة القرض البالغ ٣٤ مليون دولار بحسب بيان وزارة المالية.
وعوض أن يُطمئن بيان وزير المالية بالأمس الى حسن استخدام القرض بما يُفعٍّل ويُحصن المالية العامة، جاء ليُشكل تبريراً غير مقنع لوجهة انفاق القرض، ويؤكد للمعترضين صحة مخاوفهم والاسباب التي أدت الى اعتراضهم، كما أكد على أحقية مطالبة المتقاعدين وغيرهم من العسكريين والموظفين بإنصافهم وفق القوانين المرعية الاجراء.
وإن دلت مسألة قرض البنك الدولي وقبلها الهبات المالية للأسلاك العسكرية على شيء، إنما تدل على استقالة الحكومة من مسؤوليتها عن تصحيح رواتب واجور القطاع العام في الوقت المناسب، وتجاهلها لما لحق بالعسكريين والموظفين والمتقاعدين من ظلم جراء انهيار قيمة رواتبهم واحتجاز ودائعهم في المصارف. وبينما كان المفروض أن تبادر حكومة تصريف الاعمال الى تصحيح رواتب واجور القطاع العام والاسلاك العسكرية والأمنية بما يوازي انهيار العملة الوطنية، تمادت حكومة تصريف الاعمال في اللجوء الى الزيادات العشوائية وغير القانونية.
لا بل لم تتردد هذه الحكومة في استغلال إثارة موضوع المكافآت لتحويل وجهة الاعتراضات عنها ووضع الموظفين والمتقاعدين انفسهم في مواجهة بعضهم البعض فيما المشكلة تكمن عند الحكومة وفيها، مع إصرارها على التمييز بين عناصر الاسلاك وموظفي الإدارات العامة من خلال الزيادات المقترحة. وقد جاءت البيانات المتباينة لموظفي بعض الإدارات ولجان المتقاعدين لتحرف المطالبات عن وجهتها الأساسية، بينما المطلوب تضافر جهود كافة ممثلي الاسلاك والادارات العامة للحفاظ على حقوقهم التي تتآكل يوماً بعد يوم.
في المقابل، يتبين من التسريبات المتعلقة بالزيادات التي تتجه الحكومة الى إقرارها استمرار الحكومة وإصرارها على العلاجات المؤقتة والمجتزأة، وكذلك الاستمرار في التمييز بين فئات الموظفين والاسلاك العسكرية والمتقاعدين. ويُخشى أن تكون الحكومة قد نجحت في تمييع المطالب المحقة مع الإبقاء على الزيادات الاستنسابية وتأجيل استحقاق تصحيح الرواتب، من دون أن تقيم أي اعتبار للمعاناة التي يعيشها موظفو القطاع العام، والعسكريين، والمتقاعدين، وعائلاتهم.
خاصة وأن الزيادات المؤقتة التي تمت على الرواتب والأجور حتى اليوم تُخفي محاولة حكومة تصريف الاعمال اسقاط حقوقٍ مكتسبة للموظفين والعسكريين والمتقاعدين، كون الزيادات التي أُقرت حتى اليوم لا تدخل لا في احتساب تعويض الصرف ولا في احتساب المعاش التقاعدي.
وفيما تتذرع حكومة تصريف الاعمال بالإيرادات المتاحة واعتمادات الموازنة لعدم تصحيح الرواتب والأجور وتبرير استمرارها في الزيادات الاستنسابية، عاودت إيرادات الدولة لترتفع اعتباراً من العام ٢٠٢١ حتى أصبحت اليوم تكفي لتغطية رواتب واجور القطاع العام وبعض مصارفات الدولة. إلا أن هذه الزيادة في الإيرادات العامة لم تؤدِ الى دفع الحكومة إلى المبادرة لوضع خطة لتصحيح رواتب واجور القطاع العام على مراحل تتوافق مع تنامي قدرة المالية العامة ووارداتها.
في المقابل، يُشكل طرح المنبر القانوني للدفاع عن حقوق العسكريين المتقاعدين، الذي يقترح قاعدة علمية لاحتساب الرواتب والاجور الجديدة قوامها النسبية ومرجعيتها قانون سلسلة الرتب والرواتب، حلاً منطقياً لتصحيح الرواتب والأجور بعيداً عن الزيادات العشوائية والتمييز غير المبرر بين فئات الموظفين والاسلاك. وتسمح قسمة حصة الرواتب والأجور في موازنة العام ٢٠٢٤ على مجموع الرواتب والأجور الإجمالية بحسب قانون سلسلة الرتب والرواتب رقم ٤٦/٢٠١٧ وتعديلاته، بالحصول على نسبة زيادة الرواتب والأجور مع المحافظة على الاطار القانوني للسلسلة.
ويسمح الطرح الآنف الذكر بعدم تخطي الاعتمادات المتاحة في الموازنة من ناحية، مع المحافظة على الحقوق وفقاً للنسبة التي تم الحصول عليها من المعادلة المبينة أعلاه وانصاف الفئات الدنيا من الموظفين والمتقاعدين من ناحية ثانية. ما يدل على رغبة معظم العسكريين والموظفين والمتقاعدين في أن يكون التصحيح منصفاً وعادلاً، بغض النظر عن قيمة الزيادة التي يحصلون عليها. ذلك أن تصحيح الرواتب والأجور الذي يستند الى الأصول القانونية يحفظ الحقوق المكتسبة ويُساهم في تحقيق الاستقرار الاجتماعي بعد الاكتفاء الاقتصادي.
ويُبرز استمرار تخبط حكومة تصريف الاعمال في تصحيح رواتب واجور موظفي ومتقاعدي القطاع العام عجزها عن معالجة الازمة المالية والاقتصادية التي يعاني منها لبنان والتي تدخل سنتها الخامسة على التوالي، ويُظهر مدى جهل المسؤولين لما يُشكله هذا التصحيح من مدخل الزامي لأي خطة نهوض اقتصادي. وأسوأ ما في الامر هو تعاطي الحكومة ومن ورائها الدولة العميقة، مع زيادة الرواتب والأجور على أنها منحة مجانية وليست حقاً يتقاضاه الموظفون والعسكريون مقابل عملهم، ومن واجب الدولة أن تؤمن لهم حياةً كريمة.
وفي مقابل تخبط الحكومة وعجزها، تمكن العديد من مؤسسات القطاع الخاص في لبنان، لا سيما منها الكبيرة والمتوسطة الحجم، من تخطي مشكلة رواتب واجور موظفيها وعمالها. انطلاقاً من إدراك أصحاب العمل أن إنتاجية الموظف والعامل تتوقف على شعوره بأن ما يتقاضاه يكفي لتلبية حاجاته وعيش حياة كريمة. الامر الذي أدى الى اعتماد رواتب تواكب تقلبات سعر صرف العملة الوطنية، ومكونة من جزئين جزء منها بالدولار الأميركي والجزء الآخر بالليرة اللبنانية. ما سمح لهذه المؤسسات أن تحافظ على قدراتها الإنتاجية والخدماتية وعلى حصتها في الأسواق، وأن تحافظ أيضاً على موظفيها وعمالها أو على القسم الأكبر منهم.
وبالتالي إن تمادي الحكومة في تجاهل الترابط بين استعادة التعافي الاقتصادي ومعالجة أسباب الازمة المالية والاقتصادية، وبين إقرار رواتب وأجور تومن الحياة الكريمة للعسكريين ولموظفي القطاع العام والمتقاعدين، يجعل من معالجة الازمة وتداعياتها بعيدة المنال. فالعشوائية التي تمارسها حكومة تصريف الاعمال في مقاربتها لمختلف القضايا المتعلقة بالحلول المنشودة للازمة المالية والاقتصادية، تُفاقم الوضع وتحول دون تحقيق تقدم في معالجة الأوضاع المتردية.
٢٨/٢/٢٠٢٤