الموازنة والنهوض الاقتصادي

بقلم غازي محمود
عميد متقاعد، دكتوراه في الاقتصاد

كشفت موازنة العام ٢٠٢٤ التي اقرها المجلس النيابي، عن امعان حكومة تصريف الاعمال في الهروب من مسؤوليتها عن إيجاد حلٍ للازمة المالية والاقتصادية التي تعصف بلبنان. وبينت المسؤولين عن اعداد الموازنات العامة اسرى النص القانوني، واكتفائهم بتنظيم جداول بالنفقات والايرادات لا تعبر عن أي توجه اقتصادي او تنموي. سيما وأن قانون المحاسبة العمومية رقم ١٤٩٦٩ الصادر بتاريخ ٣٠/١٢/١٩٦٣ وتعديلاته، يُعرِّف الموازنة على انها صك تشريعي تقدر فيه نفقات الدولة ووارداتها عن سنة مقبلة، وتجاز بموجبه الجباية والانفاق.

ومن المفارقات أن موازنات الحكومات المتعاقبة لم تكن أفضل حالاً، وهي كانت تخلو أيضاً من البرامج الإنمائية والاجتماعية. لا بل غالباً ما كانت هذه الموازنات مُثقلةً بالديون لتمويل العجز المزمن من ناحية، ومناسبةً لفرض المزيد من الرسوم والضرائب من ناحيةٍ ثانية. الامر الذي أعاق نمو الاقتصاد الوطني ورفع من تكاليف الإنتاج المحلي وحال دون منافسته للمنتجات الأجنبية. فيما تسببت الرسوم والضرائب بارتفاع تكلفة تمويل الاستثمار الخاص، أما الاستدانة فأدت الى ارتفاع سعر الفائدة ومنافسة الدولة للقطاع الخاص في الحصول على الرساميل التي فضل أصحابها توظيفها في المصارف او الاكتتاب بسندات الخزينة.

وتكمن أهمية الموازنة العامة في انها واحدة من الادوات الاساسية لرسم السياسات العامة للدولة، وتحقيق البرامج الانمائية والاجتماعية وصولاً الى تحريك العجلة الاقتصادية وتشجيع الاستثمارات. ومن جهته يعتبر الاقتصادي البريطاني John Maynard Keynes أن للموازنات العامة دوراً رئيسياً في تحفيز النمو الاقتصادي والعمالة المنتجة وكذلك في دعم استقرار الاقتصاد الكلي. وقد عمدت العديد من دول العالم الى تطوير موازناتها لتصبح أداة من ادوات التخطيط تتضمن المشاريع والبرامج المستقبلية من جهة، ووسيلة من وسائل مراقبة تنفيذ الموازنة ومساءلة ومحاسبة المنفذين من جهةٍ ثانية.

وقد استدرك المشرع اللبناني مسألة مراقبة تنفيذ الموازنة حيث نصت المادة ٨٧ من الدستور على أن “حسابات الإدارة المالية النهائية لكل سنة يجب أن تعرض على المجلس النيابي ليوافق عليها قبل نشر موازنة السنة التالية التي تلي تلك السنة”، وبالتالي يتمّ إرسال قطع حساب الموازنة إلى ديوان المحاسبة قبل الـ ١٥ آب من السنة التي تلي سنة الموازنة المنوي إقرارها. كما تنصّ المادة ١٩٥ من قانون المحاسبة العمومية على أن تقوم مديرية المحاسبة العامة بإرسال حساب المهمة العام إلى ديوان المُحاسبة قبل أول أيلول من السنة التي تلي سنة الحساب.

وتجدر الإشارة الى أن قطع الحساب هو عبارة عن جدول يتضمن بنود الانفاق الفعلي مقارنة بما تمّ رصده في الموازنة موضوع قطع الحساب. وهو يسمح بالتأكد من التزام الحكومة الرخصة او الاجازة التي حصلت عليها من المجلس النيابي للإنفاق وعدم تجاوزها الاعتمادات المنصوص عليها في قانون الموازنة، وبالتالي هي عمل رقابي تكمن أهميته في انه يسمح بالتأكد من حسن استخدامها للأموال العمومية. وتتم هذه العملية من خلال مقارنة الانفاق الفعلي من الموازنة مع الفواتير والإيصالات التي يجب أن تحتفظ بها وزارة المال لتبرير الصرف.

ويأتي إقرار المجلس النيابي للموازنة من دون قطع الحساب ومن حساب المهمة ليؤكد نية الممسكين بالقرار السياسي والمالي الاستمرار في تغييب المراقبة والمحاسبة، وذلك من خلال عدم تطبيق المادة ٨٧ من الدستور المشار اليها أعلاه التي تقضي بوجوب موافقة المجلس النيابي على حسابات الإدارة المالية النهائية لكل سنة قبل نشر موازنة السنة التالية التي تلي تلك السنة. وهي سابقة حصلت عند إقرار موازنة العام ٢٠١٧ وتم استخدامها مجدداً عند اقرار الموازنة الحالية، ما يُشجع الفساد ويغطي الهدر المتمادي في القطاع العام.

وفي الوقت الذي أقرّت العديد من دول العالم قانون خاص بالموازنة العامة يحدد اطارها وينظم أحكامها، ويجعل منها مشروع برامج مستقبلية تتضمن الخطط والاهداف المنوي تنفيذها، لا تزال الموازنات العامة اللبنانية تفتقر الى الحد الأدنى من التوجهات التنموية والاصلاحية، والى المعايير والقواعد المناسبة لتقييم الأداء وفق برامج محددة تهدف الى تحقيق السياسات العامة.

وتكمن أحد أسباب ازمة لبنان المالية والاقتصادية في عجز الموازنات الذي ادخل البلد في مديونية تتجدد كل سنة مع كل موازنة جديدة، وشكل الاستمرار في الاستدانة لسد هذا العجز أحد افدح أخطاء سياسات الدولة المالية واخطرها. ما أدى الى ارتفاع حجم الدين العام نسبة الى الناتج المحلي الإجمالي، وتسبب بعجز مستدام للدولة عن ايفاء ديونها الداخلية والخارجية. وقد أدى الاستمرار في الاستدانة والتوسع في الانفاق، الى فقدان الانتظام المالي والخروج عن القواعد الأساسية للمالية العامة وللعلوم المالية.

أما توازن موازنة العام ٢٠٢٤ أي عدم وجود عجز فيها، فلا يتوافق مع الوضع المالي الحقيقي للدولة اللبنانية. وذلك كون هذه الموازنة لم تلحظ متوجبات خدمة الدين، مع العلم أن الدين العام بلغ في نهاية العام ٢٠١٩ وقبل تفاقم الازمة ما يزيد على الـ ٩١ مليار دولار أميركي وتقدر خدمته بـ ١,٦ مليار دولار اميركي فيما تزيد المتأخرات على الـ ٦,٤ مليار دولار. فعدم ادراج هذه المتوجبات في نفقات الموازنة لا يُعفي الدولة منها، خاصةً وأن حمَلَة سندات اليورو بوند لا يقتصر على اطراف لبنانية.

أما التعديلات الضريبية التي شكلت محور موازنة ٢٠٢٤ والمصدر الأساسي لإيراداتها، فقد افتقرت لأي بعد اقتصادي او اجتماعي. وقد تمت مضاعفة ضريبة الدخل على الرواتب والأجور بنحو ٦٠ ضعفاً، واعتمادها على أساس سعر صرف الدولار في السوق الموازية أي ٨٩٥٠٠ ليرة، فيما لم تتعدّ زيادة رواتب موظفي القطاع العام الـ ٧ أضعاف. ما يدعو الى السؤال عن الحكمة من وراء هذه الزيادة، ومن اين لهؤلاء الموظفين والمتقاعدين أن يسددوا ما يتوجب عليهم من زيادات.

وبذلك تقتصر اهداف الموازنة على تأمين مزيد من الإيرادات لصالح الخزينة العامة، من دون مراعاة الظروف التي يمر فيها الاقتصاد الوطني وقدرته على التمويل، ومن دون الاخذ بالاعتبار أوضاع المواطنين الاقتصادية والاجتماعية وقدرتهم على تحمل المزيد من الرسوم والضرائب، لا سيما منهم موظفي القطاع العام عسكريين ومدنيين ومتقاعدين. ما يجعل من الزيادات الضريبية التي اقرت غير مضمونة النتائج، في ظل التهرب الضريبي الذي يزيد من حدته ارتفاع الرسوم والضرائب، وعدم اتخاذ أي تدابيرٍ عملية للجم التهرب والتهريب.

وقد تجاهلت الموازنة ومن خلفها الحكومة والمجلس النيابي مسالة الودائع المحتجزة في المصارف، الامر الذي يؤشر الى أن السلطة التنفيذية غير مستعجلة لإيجاد حلٍ مناسب لها وأن النهوض من الازمة لا يزال بعيد المنال. في الوقت الذي كان يجب أن تلاقي السياسات المالية إجراءات مصرف لبنان وتعاميمه، خاصةَ بعد توجه المصرف الى إعادة النظر بالتعميم ١٥١ بحيث يسمح بالسحب شهرياً من الودائع “المؤهلة وغير المؤهلة” وإن بمبالغ متواضعة. وذلك بتضمين الموازنة العامة نواة لإعادة تكوين مستحقات الدين العام، ما يُساهم في إعادة جزء من اموال المودعين وتحرير ودائعهم.

وفي حين يُمكن للمراقب أن يتفهم خلو الموازنة العامة من برامج إنمائية وحوافز لتشجيع الاستثمار وتكبير الاقتصاد الوطني، إلا أنه من غير المفهوم او المبرر خلوها من اية إصلاحاتٍ حقيقية لا بد منها لمعالجة الازمة وتداعياتها. خاصةً وأن اهمية أن تتضمن الموازنة العامة الإصلاحات البنيوية المطلوبة وخطة للنهوض المالي والاقتصادي، انما تكمن في أن احكام الموازنة تطال كافة القطاعات الاقتصادية من خلال التشريعات المالية. الامر الذي يجعل منها مكاناً مناسباً لطرح الحلول المتكاملة، وُيمكن من خلالها تلمس الطريق المؤدي الى التعافي والنهوض الاقتصادي.

Leave A Reply

Your email address will not be published.