موازنة “أفضل الممكن” على ميزان الاقتصاد والمال : عائدات محدودة من جيوب المواطن… بدون أي مقابل
أسهَبَ الخبير الاقتصادي والمالي الدكتور محمود جباعي في قراءة مفاعيل موازنة العام 2024 على الوضعين الاقتصادي والمالي في البلاد، وانعكاسات ضرائبها ورسومها على المواطنين، على رغم إقراره بجهود لجنة المال والموازنة النيابية… من دون أن يغفل طرح عدد من الاقتراحات التي من شأنها خلق موازنات فاعلة ترفد الخزينة بالعائدات المأمولة وتَقي اللبنانيين بليّة الضرائب الثقيلة، بما يؤدي إلى إنهاض الاقتصاد وإنقاذ الوضع المعيشي والاجتماعي في المستقبل.
ويقول جباعي في حديث لـ “الديار”: لبنان في أمسّ الحاجة إلى موازنة عامة مع استحالة الاستمرار في الصرف على القاعدة الاثنتي عشرية… من الناحية التقنية والعلمية، إن مجرّد الصرف ضمن موازنات يُعتبَر أمر جيّدا وانطلاقاً لمسار الإصلاح في البلاد. لكن ذلك لا يعني أننا راضون على بنود الموازنة كافة، بل هي تحتاج إلى نقاش استراتيجي حول كيفية وضع الموازنات ككل في البلاد، لأنها لا تراعي الأصول المالية العلمية المنطقية العالمية، بدليل أن هذه الموازنة لا تتضمّن رؤية اقتصادية، والنفقات الاستثمارية فيها أقل من 2% من مجمل النفقات، لذلك لا تأثيرَ مباشرَ وإيجابي لها في الوضع الاقتصادي… في حين نحن في أمسّ الحاجة إلى موازنات قادرة على تحصيل الإيرادات من مكامن الهدر المرتبطة بالتهرّب الضريبي الذي يتخطّى مليار دولار سنوياً، كالتهرّب من دفع ضريبة الـTVA والتهرّب الجمركي الذي يفوّت على الخزينة عائدات تقارب مليار دولار سنوياً، والتهرّب من فرض الرسوم على الأملاك البحرية التي من شأنها أن تزيد واردات الخزينة مئات ملايين الدولارات.
ويتابع: كذلك افتقدت الموازنة فرض ضرائب على أصحاب الثروة ورأس المال، أو على الرأسمال غير المستخدَم المعتمد في غالبية دول العالم، والتي من شأنها أن تزيد إيرادات الدولة من دون المَسّ بجيوب المواطنين ولا سيما الطبقة المتوسطة والفقيرة… عندما نقوم بوضع موازنات تحصّل هذا الكَمّ من الإيرادات، يمكن البناء عليها استراتيجياً لرفد الاقتصاد والوضع المالي في البلاد، بالدعم المالي المطلوب.
من هنا، يرى أن “هذه الموازنة، على الرغم من ضرورة وجودها، يبقى تأثيرها محدوداً جداً لجهة النهوض بالوضع الاقتصادي وتطويره، أو بالنسبة إلى تحسين الوضع المالي”.
وعن تأثير الضرائب والرسوم الواردة في الموازنة في المواطنين، يقول جباعي: على الرغم من جهود لجنة المال والموازنة النيابية في تقليص عدد الرسوم والضرائب التي كانت الحكومة وضعتها في مشروع الموازنة، للتخفيف من وطأتها على المواطن، خصوصاً أن الأخير يسدّد الضرائب من دون الحصول على أي تقديمات، نسأل أين واجبات الدولة تجاه اللبنانيين؟ كل ما يتم فرضه من ضرائب على المواطنين اليوم، هو سلبي جدا وتأثيراته سلبية بالتأكيد في معيشة المواطن. فهم سيدفعون الضرائب على سعر صرف 89،500 ليرة بينما يحصّلون رواتبهم على سعر صرف 1500 ليرة للدولار… مع بعض زيادات على رواتب ومعاشات موظفي وعمال القطاع العام لا تتجاوز احتساب الراتب مقابل الدولار الـ15 ألف ليرة. أما المواطنون العاملون في القطاع الخاص، فهم يسددون الضرائب على الرغم من تقليص حجم الشطور الضريبية من قِبَل لجنة المال النيابية، مقابل صفر خدمات من الدولة، حيت التأمين الصحي معدوم، مع وجود فاتورتَين للكهرباء والمياه وغيرهما، إضافة إلى ارتفاع كلفة التعليم في المدارس الخاصة، كل ذلك في ظل اقتصاد مدولَر.
ويُضيف: في ضوء ذلك، يمكن القول إن مضاعفات هذه الموازنة ستترجَم في ضعف القدرة الشرائية لدى موظفي القطاع الخاص وموظفي القطاع العام في الدرجة الأولى كونه يعاني أصلاً من انعدام قدرته الشرائية.
ويعتبر أن “هذه الموازنة هي”أفضل الممكن”، إلا أنه يمكن تطويرها في مشروع موازنة العام 2025″، وهنا يعرض جباعي بعض التي الاقتراحات تجعل من الموازنة خطوة أولى نحو طريق الإصلاح، وهي:
– أولاً: على الموازنات المقبلة أن تراعي النفقات الاستثمارية فيها، إذ لا يجوز أن تكون أقل من 15% من مجمل النفقات. فزيادتها تساهم في زيادة الناتج المحلي وبالتالي زيادة إيرادات الخزينة، في إطار التكامل بين السياسة المالية والسياسة الاقتصادية، أي أن تصبح الموازنة رافدة للاقتصاد.
– ثانياً: الإسراع في اتخاذ قرار حاسم في مسألة الرقابة الضريبية. إذ لا يمكن الاستمرار في هذا النهج حيث معدل التهرّب الضريبي في لبنان تخطى نسبة الـ 55 في المئة. على الدولة إذاً تكليف شركات مالية عالمية لديها نظام “رقابة ضريبيّة” حقيقي يرتبط بشبكة إنترنت داخلية، يكون مركزها وزراة المال وتشمل كل الشركات اللبنانية التي تتعاطى الشأن الاقتصادي، وهذا الأمر يمكن أن يحصِّل للدولة إيرادات لا تقل عن 1،5 إلى 2 مليار دولار سنوياً. علماً أن الناتج المحلي يتحسّن سنوياً، والقطاع الخاص يعمل بشكل واضح وفعلي حيث يسعّر كل البضائع والخدمات بالدولار الأميركي ويحقق أرباحاً طائلة من دون أن يدفع عدد كبير من الشركات الخاصة الضرائب المستحقة عليه للدولة.
– ثالثاً: الموازنات لا تزال تعتمد اليوم على الأسلوب المالي القديم أي فرض الضرائب بشكل أفقي، وزيادة حجم الضرائب بشكل عشوائي! فالموازنات الناشئة والناجحة تصوّب نحو الهدف مباشرةً وتفرض الضرائب في الأماكن المفيدة التي ترفد الخزينة العامة بالأموال، بعيداً من تحميل الطبقة الفقيرة والمتوسطة ثقل الضرائب والرسوم.
ويختم جباعي: لا يمكن أن تبقى الدولة تتعايش مع الهدر، بدل اللجوء إلى خصخصة القطاعات غير المنتجة عبر الـBOT أو الـPPP، بما يؤدي إلى زيادة إنتاجية الدولة وتخفيف الأعباء عنها… ما يساهم في الوصول إلى موازنة إصلاحية تنهض بالاقتصاد وتنقذ الوضع المالي والاجتماعي في البلاد مستقبلاً.