الاقتصاد الهش والحرب المدمرة
– بقلم غازي محمود.
– عميد متقاعد، دكتوراه في الاقتصاد، باحث في اقتصاديات الطاقة
في الوقت الذي تتصاعد فيه وتيرة الاعتداءات الإسرائيلية على جنوب لبنان وحرب الإبادة على الفلسطينيين، يتسع الشعور بالقلق بين اللبنانيين من أن تتوسع الحرب الإسرائيلية لتشمل لبنان. خاصةً وأن تداعيات حرب تموز/ يوليو الـ ٢٠٠٦ لا تزال ماثلة في أذهان الكثيرين منهم، لجهة الدمار الذي قد يُصيب لبنان في مواجهة عدوٍ غاشم لا يُتقن إلا التدمير. فالخوف ليس من مواجهة جيش الاحتلال الاسرائيلي الذي يخشى مواجهة ابطال المقاومة من لبنان الى فلسطين، بل الخوف من حجم الضرر الذي قد يُلحقه بلبنان بشراً وحجر.
ويتصاعد التوتر فيما لبنان يعاني منذ ما يزيد على الأربع سنوات من إحدى أسوأ الأزمات الاقتصادية في العالم، ويواجه انهياراً مالياً واقتصادياً تسبب في تدهور عملته الوطنية وفقدانها نحو ٩٨ في المئة من قيمتها، في وقت سجل فيه الناتج المحلي الإجمالي تراجعاً فاقت نسبته الـ ٤٠ في المئة، الامر الذي دفع بنسبة التضخم إلى مستوياتٍ غير مسبوقة ويبلغ ٢٧٠ في المئة على أساس سنوي في شهر نيسان/إبريل ٢٠٢٣، فيما كانت تُستنزف احتياطيات مصرف لبنان من العملات الأجنبية لتصل الى أقل من ثلث المبلغ الذي كانت عليه.
وقد أثارت خطة الطوارئ الوطنية التي أعدتها حكومة تصريف الاعمال استعداداً لأي توسّع مُحتمل للاشتباكات والعمليات العسكرية في الجنوب، ولمواجهة تداعيات أي عدوان قد يشنه العدو الإسرائيلي على لبنان، مسألة التمويل في وقتٍ تعاني فيه خزينة الدولة من شحٍ في مواردها وجفافٍ في مصادر الاقتراض والتمويل. فيما تُقدر تكاليف الخطة بما يزيد على الـ ٤٠٠ مليون دولار أميركي، في وقت يرفض حاكم مصرف لبنان بالإنابة تمويل الحكومة بشكلٍ عام وليس خطة الطوارئ وحسب، حتى لو أقدم المجلس النيابي اللبناني على إقرار قانون يُشرّع الاستدانة من المصرف.
وتقتصر أهداف الخطة التي شارك في اعدادها عدد من المنظمات الدولية والمنظمات غير الحكومية العاملة في المجال الانساني في لبنان، بالإضافة إلى ممثلين عن الوزارات المعنية في اللجنة الوطنية لتنسيق مواجهة الكوارث والأزمات، على حماية المواطنين من تداعيات حدوث أي عدوان إسرائيلي ومساعدتهم في حال نزوحهم أو تهجيرهم القسري من منازلهم، وذلك من خلال تأمين مراكز إيواء آمنة للنازحين وتوفير المستلزمات الصحية والبيئية الضرورية وتأمين احتياجاتهم الأساسية من غذاء ومياه وكهرباء لضمان الحفاظ على الاستقرار والأمن الاجتماعي، أما العودة وإعادة الاعمار فتحتاج لخطةٍ أخرى.
وتُشكل المتطلبات المالية لخطة الطوارئ الوطنية ضغطاً إضافياً على الخزينة العامة الفارغة اصلاً، في الوقت الذي من المستبعد أن يحصل لبنان لتنفيذ خطته على مساعدات ودعم مالي من هيئات الاغاثة الدولية، التي وجهّت تقديماتها منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية الى أوكرانيا، وهي اليوم مستنفرة لإغاثة الفلسطينيين في غزة. وكذلك الحال بالنسبة للتمويل من الهيئات والصناديق الدولية بعدما فشل لبنان خلال السنوات الماضية في استعادة ثقة المجتمع العربي والدولي نتيجةً لعدم ايفاء حكومة حسان دياب بالتزاماتها في العام ٢٠٢٠، وامتناع حكومة تصريف الاعمال عن تنفيذ أيٍ من المشاريع الاصلاحية الملحة والمطلوبة دولياً.
وجل ما حصل عليه لبنان من تمويل لخطة الطوارئ، هو القرض الذي تمكنت وزارة الصحة من الحصول عليه من البنك الدولي، والذي يُقدر بـ ١١ مليون دولار لتمويل خطتها الصحية الطارئة. إلا أن الخوف يكمن في عدم تمكن المستشفيات والمستوصفات من مواكبة اي تطور أمنى لان هذه الخطة بحاجة الى ادوية ومستلزمات طبية غير متوفرة حتى قبل اندلاع الحرب. ذلك أن لبنان يعاني انهياراً في قطاعه الصحي، وتراجعاً في مقومات الرعاية الصحية فيه بشكل دراماتيكي، وهجرةً لكوادره الطبية والتمريضية بالإضافة الى غياب التنسيق والمتابعة في تأمين الأدوية والمستلزمات.
وأخطر ما في الامر إذا تعمّد العدو الإسرائيلي التدمير الشامل للمرافق الحيوية من مستشفيات ومستوصفات، ومرافئ بحرية وجوية بالإضافة الى الطرقات والجسور، ما يحول دون تنفيذ الخطة ويترك اللبنانيين في مواجهة قدرهم. وما يحول دون تنفيذ إجراءات رفع جاهزية القطاع الصحي تحسباً لأي تصعيد عسكري، بحسب ما أعلنه وزير الصحة اللبناني، مع العلم أن موازنة وزارة الصحة لا تتعدَّ الـ ٣٥ مليون دولار اميركي فيما كانت تبلغ قُرابة الـ ٤٠٠ مليون دولار اميركي قبل الأزمة في ٢٠١٩.
وكيف للبنان أن يتحمل تداعيات الحرب إذا ما وسع العدو الإسرائيلي دائرتها لتشمل لبنان، وفي الوقت الذي هو غير قادر على تأمين متطلبات خطة الطوارئ الوطنية التي تقتصر على بضع عشرات الملايين من الدولارات. سيما وأن الوضع في لبنان اليوم يختلف عما كان عليه عشية عدوان تموز من العام ٢٠٠٦، حيث كان يلاقي تعاطفاً عربياً ودولياً، بينما الحال هي على عكس ذلك اليوم حيث تختلف أولويات وحسابات هذه الدول، ولم يعد لدى لبنان ما يكفي من الاحتياطات لتوفير الاحتياجات الإنسانية الاساسية فمن أين يأتي بالأموال لإعادة إعمار ما قد تدمره الحرب.
وما يحدث اليوم في الجنوب مؤشر كافٍ على انخراط لبنان في الحرب مع العدو الاسرائيلي، وإن لم تتطور لتشمل كامل الأراضي اللبنانية واقتصارها حتى اللحظة على القرى الجنوبية. والتداعيات السلبية لتصاعد وتيرة الاعتداءات الاسرائيلية على الاقتصاد الوطني تتجلى على أكثر من صعيد، ولعل اكثرها وضوحاً ما أصاب القطاع السياحي لا سيما الفنادق والمطاعم من مغادرةٍ للسياح والغاءٍ للحجوزات عشية عيدي الميلاد المجيد وراس السنة، ويُخشى أن تصبح الآثار السلبية أسوأ في حال توسعت الحرب.
وتجدر الإشارة الى أن التداعيات السلبية للعمليات العسكرية على الحدود الجنوبية لا تقتصر على القطاع السياحي، بل تطاول جميع النشاطات الاقتصادية نتيجةً لتراجع تدفق العملات الصعبة. وهي تؤثر سلباً إن لجهة تراجع ميل العائلات للاستهلاك تحسباً لخطر اندلاع الحرب، وإن لجهة توقف تدفق رؤوس الأموال إلى لبنان وتداعياته على مشاريع الاستثمار، ذلك أن رأس المال الذي يوصف عادة بالجبان يبتعد تلقائياً عن مناطق التوتر والاضطرابات. ما يجعل من التداعيات السلبية للمواجهات العسكرية تشمل لبنان من أقصاه الى اقصاه، ولا تقتصر جغرافياً على منطقة معينة، وبشرياً على شريحة بعينها من اللبنانيين.
وتًشكل الحروب في الدول المتقدمة والمقتدرة مناسبةً لتشجيع الابتكار التكنولوجي والتعمق في الأبحاث والتطوير، ومحفِّزاً لأنشطتها الاقتصادية، فيتوسع ويتنوع الإنتاج الصناعي ليلبي متطلبات الحرب من أسلحة وذخائر الى غيرها من المستلزمات. في المقابل، تتسبب الحروب للدول النامية بضرب الدورة الاقتصادية، وتعطيل الأنشطة التي تُدخل القطع الأجنبي الى اقتصاداتها الوطنية، وانخفاض الناتج المحلي الإجمالي ما يؤدي الى زيادة مديونيتها وعجزها عن تعويض خسائرها لعقود من الزمن.
وإذا كانت المقاومة قادرة، لا بل هي فعلاً قادرة على الحاق خسائر كبيرة واضرار واسعة في مرافق العدو الإسرائيلي ومؤسساته، إلا أن حلفاء إسرائيل جاهزون في المقابل لتعويضها خسائرها ومساعدتها على تحمل تكاليف ما قد تدمره الحرب. خاصةً وانهم لم يترددوا في إعطائها الحق بحربها المدمرة على الفلسطينيين، لا بل بتزويدها بالسلاح والذخائر لتنفيذ جرائمها بحق الشعب الفلسطيني.
أما لبنان الذي يتهرب مسؤولوه من حل أزمته السياسية، ويتمسك كل طرف منهم بشروطه ومصالحه بدلاً من الالتفات الى مصلحة البلد، لم يجد من يُعينه على النهوض من أزمته المالية والاقتصادية التي فاقت تداعياتها الاضرار التي قد تتسبب فيها الحرب بين أعداء الداء. ما يدعو الى إعادة النظر في أساليب مواجهة العدو الإسرائيلي ويجعل الانتصار الحقيقي عليه هو في تجنب الانجرار الى الحرب معه بدلاً من خوض غمارها وتكبد غرمها.