خمسة ملايين؟

 

في وقت تتلاحق فيه الأحداث وتتسارع، في العالم أجمع وفي الشرق الأوسط في صورة خاصة، ولبنان، بلد الرسالة وتلاقي الحضارات، كتب له أن يكون الشاهد الأول – وربما الأهم – على الحرب أو السلام، في وقت يقف العالم بأسره على مفترق طريق، وهذه الطريق، حتى في أوقات الحرب كتب لها السلام، وحتى في أوقات السلام كتبت لها الحرب، ففي الوقت الذي ليس لأحد أن يبقى فيه متفرّجا، بل لا بد من أن يكون لاعبا، ولاعبا محوريا، تكتب للبنان مجدّدا تساؤلات البقاء والوجود أو العدم والانهيار.
ففي أوقات الصعاب والمآسي والشكوك والمخاوف، كان لا بد للمجلس النيابي المؤلف من 128 تابعا من مختلف الانتماءات والتوجهات والتيارات، التابعة كلها للخارج ولمطامعه وأهدافه ومصالحه، من متابعة لعب دور التابع الحقيقي، في القوانين التي يقرّها والأنظمة التي يخضع لها هو أولا، ومن ثم يفرضها على الشعب المؤلف من قلّة من اللبنانيين ومن أكثرية عرب وأجانب، ومعا يشكّلون ستة ملايين نسمة.
آخر هذه القوانين التي أقرّت، ونفضّل عبارة التي أجبر المجلس النيابي، في ظل أسباب ومعطيات وظروف معينة على إقرارها، تعديل قانون النقد والتسليف على نحو أصبح معه مجازا للمصرف المركزي طباعة فئات جديدة من العملة اللبنانية، ونعني بذلك على وجه الخصوص فئة الـ 500 ألف ليرة والمليون ليرة والخمسة ملايين ليرة.
لقد اخترنا كعنوان لهذا المقال، خمسة ملايين؟ للدلالة على فداحة الجرم الوطني الشامل والفظيع والمتمادي الذي ارتكبه سياسيونا للوصول بنا الى ما وصلنا إليه من مآسٍ ومخاطر وصعاب ومشكلات، أمنية وسياسية وعسكرية وتربوية واقتصادية ومالية وقانونية ودستورية وإنسانية واجتماعية.
نعم، المشكلات والصعاب والمآسي تحيط بنا من كل جهة وصوب ومصدر، رغم أن المصدر، في رأينا، هو الشعب اللبناني ذاته الذي يوصل الى الحكم، كل أربع سنوات، حكاما لا يجيدون الحكم الحكيم لان الحكمة تنقصهم، إضافة الى بيئة حاضنة مجتمعية لا تليق ببلد كلبنان عرف الكرامة والعزّ والرقيّ والازدهار والحضارة يوما.
لا يختلف كثيرا معظم كبار اقتصاديينا أمثال الدكتور نسيب غبريل أو البروفسور جاسم عجاقة من أن لا علاقة مباشرة بين انهيار العملة الوطنية من جهة وبين طباعة فئات نقدية أكبر من فئة المئة ألف ليرة لبنانية من جهة أخرى، أمثال ورقة الـ500 ألف والمليون والخمسة ملايين. على العكس من ذلك بحسب الاقتصاديين المذكورين أعلاه، ان تواجد فئات نقدية عالية بين أيدي المواطنين يسهل حمل العملة الوطنية للمشتريات اليومية، بدلا من حمل أوراق أصغر كورقة المئة ألف ليرة حيث يتوجب على المواطن، حكما وعفوا وتلقائيا، أن يحمل أكياسا من النقد في ظل ارتفاع سعر صرف الدولار الأميركي مقابل الليرة اللبنانية، حيث بلغ سعر الصرف هذا 89500 ليرة للدولار الواحد وفي ظل دولرة معظم الأسعار ومعظم السلع، وفي شكل أوسع، معظم القطاعات.
طبعا ان لكل شيء حسنات ولكن أيضا مساوئ ومخاطر. ومن هذه المخاطر والمساوئ أن وضع الفئات النقدية الكبيرة في التداول يؤدي الى زيادة التضخم، إذا كانت الطباعة من دون إصلاح حقيقي، وبالتالي ان الحل ليس في الفئات النقدية وإنما في وقف العجز وضبط الكتلة النقدية واستعادة الثقة بالليرة. من جهة أخرى يرى الدكتور محمد الفحيلي أنه يجب على مصرف لبنان أولا معالجة الفئات النقدية التي لم يعد لها قيمة شرائية فعلية، مثل فئة الألف ليرة والخمسة آلاف ليرة ويجب الاتفاق مع وزارة المالية ووزارة الاقتصاد على إلزام المكلفين والشركات على دفع الرسوم والضرائب والرواتب والأجور من خلال حسابات مصرفية.
وعن سؤاله عما إذا كانت طباعة فئات جديدة من العملة الوطنية تزيد من التضخم، يجيب الدكتور محمد الفحيلي أن لبنان يستورد التضخم لان 70% من استهلاكنا والمواد الأولية التي نستعملها يتم استيرادها من الخارج، وأن هناك تضخما عالميا من الصعب ضبطه بسبب القلق من الأحداث السياسية الحاصلة، وينعكس ذلك كله على التجارة العالمية وسلاسل التوريد من خلال زيادة كلفة النقل والتأمين مما يزيد الى كلفة الاستهلاك.
من ناحية أخرى، يضيف الفحيلي الى أنه في المشهد الداخلي هنالك غياب للرقابة (مع تقدير الدكتور الفحيلي للجهود التي تبذلها وزارة الاقتصاد) مما يعطي مساحة إضافية للمضاربين والتجار والمحتكرين في التحكم في السوق وهذا يساهم نسبيا في التضخم. يضيف الفحيلي، في لبنان من الصعب جدا التعميم، لان هناك اختلافا في نسب التضخم من منطقة لبنانية الى أخرى. على سبيل المثال، أسعار الخضار والفواكه تختلف بين منطقة وأخرى، لذلك لا يمكن اعتماد معيار واضح لقياس التضخم، شارحا أن الانطباع هو أن التضخم سببه أن الرواتب والأجور لم تواكب الارتفاع في الأسعار في السنوات الماضية، وعندما يقرّ مجلس النواب لتعديل الرواتب للقطاع العام، ينسى أن هذا التعديل لن يؤدي بالضرورة الى تحسين القوة الشرائية للموظف، لان كل القطاعات الإنتاجية والخدماتية التي يتعامل معها المواطن قامت بدولرة خدماتها (مدارس، جامعات، طبابة).
في الختام، وفي رأينا ان طباعة أوراق نقدية جديدة ومن فئات أعلى، كما كل خطوة، في مجال الاقتصاد والقانون والحياة الإنسانية في شكل عام، لها إيجابياتها كما ولها سلبياتها. العبرة في أن نجعل من السلبيات إيجابيات ترتدّ عمليا على حياة المواطن الذي ما من أحد سواه يدفع الثمن الباهظ، في نهاية المطاف، وأحيانا يدفع حياته وحريته وكرامته وماله كله ثمنا لأخطاء ارتكبها، ولا يزال يرتكبها، زعماؤه ممن يتحكّمون بمصيره ومصير أولاده ومصير وطن وشعب بأسره. فالمسألة ليست ورقا تضاف عليه أو تحذف منه الأصفار لان مصير وطن بأسره لا يُقاس بالطباعة بل بالنهج والسياسة الحكيمة والنزاهة والمثل العليا والأخلاق الحميدة والمبادئ التي تدار بها الأوطان ويحتكم إليها الحكام أنفسهم.

Leave A Reply

Your email address will not be published.