الإفراطُ بالتفاؤل مضرٌّ

ما حصل مؤخرا بشأن غزة مهم جدا، لكنه حتما ليس نهاية المطاف. من الخطاء بمكان البناء على ما حصل للتفكير وثم الاقتناع بأن المنطقة دخلت أخيرا باب السلام والعمران، وأن الرجوع الى الوراء أصبح صعبا أو مستحيلا. البناء ايجابا على ما حصل من قبل جميع الأفرقاء مهم جدا لتحقيق السلام العادل النهائي في كل المنطقة. ينقص الشعوب العربية الكثير من الفرح والتفاؤل بشأن بناء المستقبل المزدهر ومحاربة الفقر وتحقيق التنمية والعدالة. لكن التفاؤل المفرط مضر ويؤدي الى الكسل والتقاعس في انجاز المهمات الأساسية، بل مضر حتما على المدى الطويل ونتيجته الاحباط واليأس والحزن.
لم يحصل الرئيس ترامب على جائزة نوبل للسلام لهذه السنة ليس لأن ما فعله غير مهم، بل لتشجيعه على اكمال المهمة والطريق الطويلة كي تكون الجائزة مستحقة الى آخر الحدود. لم يحصل على الجائزة لأن وقف الحروب فقط ليس كافيا لنيل الجائزة، خاصة وأن الرئيس الأميركي خرج من عدة اتفاقيات دولية انمائية كالتربية والمناخ وقلص الى حدود كبيرة موازنات التنمية التي تؤثر سلبا على الفقر والفقراء في أميركا والعالم. يقول المنطق بأنه من المرجح حصوله على الجائزة في 2026 اذا أكمل بناء طريق السلام وألغى بعض أو كل القرارات السابقة التي أساءت الى السلام العالمي والعلاقات الدولية.
لا شك أن النمو الاقتصادي يتأثر بعوامل داخلية وخارجية تساهم في استمراره لفترة من الزمن تطول أو تقصر تبعا لنوعيتها وقوتها. تتعلق العوامل الخارجية بالاتفاقيات الدولية والاقليمية المعقودة، بالازدهار الاقتصادي أو الركود الدولي، بالتوازن السياسي الدولي والاقليمي وغيرها. أما العوامل الداخلية فهي متعددة وتشمل النواحي الاقتصادية والادارية والسياسية والاخرى النفسية المؤثرة جدا، والتي تهمل في العديد من الاحيان من قبل الباحثين وأصحاب القرار الاقتصادي.
احد الاسئلة المهمة المطروحة التي تجد أجوبة لها في العلوم النفسية والاجتماعية هي الاسباب التي تكمن وراء تأسيس ونهضة وازدهار وثم زوال عهود وامبراطوريات وحضارات ودول في التاريخين القديم والحديث. ما هي فعلا الاسباب وراء نهضة الحضارات اليونانية والرومانية وغيرها وثم زوالها أو سقوطها؟ لماذا لم تستمر هذه الحضارات عبر الزمن وحتى اليوم وما هي العناصر المحركة للتغيير؟
تشكل العوامل النفسية الدوافع للقيام بنشاط اقتصادي كبير وغير عادي بغية تحقيق انجازات علمية وعملية وثقافية مهمة واستثنائية. ساهم العديد من علماء النفس في فهم ما يحدد هذه العوامل المؤثرة على تصرفات الانسان وانتاجيته وبالتالي على مستقبل الاوطان والحضارات في كل العصور. قال المفكر سيغمون فرويد Freud ان دوافع الانسان النفسية الحقيقية هي غير التي يعلن عنها أو التي يسهل قرأتها ومعرفتها، بل تتعلق بأحلامه وخياله وحبه للمغامرات والتجدد. فهل الدوافع النفسية المعلنة وراء سعي دونالد ترامب لتحقيق سلام شامل في المنطقة؟
من الاسباب النفسية الرئيسية لتصرف الانسان هي حاجته للعمل والانجاز والنجاح ليس فقط للحصول على المال أو لحب الظهور، بل خصوصا لارضاء النفس ولأهمية الشعور الداخلي بحسن تأدية الواجب. فهل يقع تفكير الرئيس ترامب في هذا الايطار؟ المجتمع الصاعد والناهض هو الذي يحتوي على أكبر عدد من أصحاب الدوافع النفسية الايجابية وغير المادية والتي تنشاء في البيت وضمن العائلة وتتطور، حسب علماء النفس، بصورة خاصة في السنين العشرة الاولى من عمر الانسان.
تشدد أكثرية النظريات النفسية على دور الانسان في خلق واستمرار النمو الاقتصادي والحضاري والاجتماعي. فالانسان المتطور، المطلع والمشارك في مجتمعه، المنفتح على الافكار والاختبارات الجديدة، المستقل فكريا، هو الذي يخلق مؤسسات متطورة ناجحة. فالنمو الاقتصادي ينتج عن ذهنية متطورة خلاقة مبدعة. عندما يزول الابداع والتجدد تضمحل المجتمعات والحضارات والمؤسسات وتبداء مرحلة الانحدار المميتة. في عالمنا الحاضر، وجود الانسان المتطور هو حاجة اساسية ضرورية لاستمرارية المجتمع في عالم الشمولية والتنافسية الذي لا سابق له. دور الدولة الواعية والمؤسسات المهتمة بالشأن الاجتماعي هو توعية المواطن على دوره الانمائي الرائد وجعله يتطور وينفتح حتى يساهم في انماء مجتمعه ووطنه.
من أسباب النجاح الاقتصادي الكبير لدول شرق اسيا هو اعتمادها لنظريات الفيلسوف الصيني كونفوشيوس Confucius الذي عاش بين السنوات 551 و479 قبل الميلاد وكانت نظرياته ترتكز على ضرورة احترام القانون والنظام في مجتمعات فاضلة متضامنة مثقفة وناشطة. فالمجتمعات المعتمدة لنظريات كونفوشيوس ارتكزت على مبدأين هما الاعتدال والرزانة والرصانة في حياة أفرادها وعائلاتهم. فتعطي أهمية كبرى للتعليم والنجاح المهني والعلمي والثقافي. تربي هذه المجتمعات في الانسان شعور الواجب تجاه نفسه وعائلته كما في تأدية المهمات المكلف بها برصانة ونجاح. اعتمدت الدول الاسيوية لهذه المبادىء وركزت على التعليمين الابتدائي والمهني ونجحت. كما يعتمد الملتزم بنظريات كونفوشيوس على العمل الجدي والمتواصل في حياته المهنية ويتصف بالمسؤولية وبحب الابداع وبمساعدة مجتمعه بكل ما يملك من امكانيات مادية وفكرية.
هذه الميزات تدفع في الواقع الى تشكيل مجتمعات ودول متضامنة متماسكة على عكس الاخرى المرتكزة على مبادىء النجاح الفردي المادي والاعلامي الذي يفيد الشخص أولا والمجتمع ثانيا. فالمجتمعات الاسيوية عرفت بالتضامن والتماسك في مواجهة المشاكل المشتركة وحضت أفرادها على العمل أولا لمصلحة المجموع حتى على حساب الحرية الفردية والحقوق الاجتماعية البديهية. الجانب السلبي لبعض التجارب يكمن في ان التركيز على العمل المستمر المضني وعلى تقديم مصلحة المجتمع على حقوق الفرد لا يستمر طويلا، اذ للتضحية حدود وهذا ما يفسر الازمات التي تشهدها بعض الدول الاسيوية.
علاقة التفاؤل بالنمو الاقتصادي تؤكد على التواصل القوي للعلوم الاقتصادية بالعلوم الاجتماعية والانسانية خاصة علم النفس. التفاؤل المنطقي مطلوب ومفيد لكن الافراط فيه دون قاعدة منطقية مضر ويؤدي الى نتائج معاكسة مؤذية.

Leave A Reply

Your email address will not be published.