صخرة الروشة بين الصورة كأداة سياسية والانقسام كهدف استراتيجي
الصورة والرمز في استراتيجية الحزب
منذ تأسيسه، أولى حزب الله أهمية استثنائية للكلمة والصورة والفيديو، معتبراً إياها أدوات لا تقلّ فاعلية عن الرصاصة. فالخطاب السياسي عنده يُعَدّ سلاحاً موازياً، والصورة تُستخدم لخلق واقع جديد في الوعي الجمعي. وفي هذا السياق، لم يكن اختيار صخرة الروشة حدثاً بريئاً: الروشة تمثل رمزاً وطنياً جامعاً، يرتبط بالهوية اللبنانية والسياحة وصورة بيروت المنفتحة على العالم. عبر إضاءة هذا الرمز بصورة الأمين العام الراحل ورفيقه، بما يمثلانه أمام الخارج، أراد الحزب أن يقول إن حضوره ليس محصوراً بالضاحية أو الجنوب، بل يمتد إلى قلب العاصمة ورمزها الأكثر حيادية.
الصورة هنا لا تكتفي بالزينة التذكارية، بل تؤدي وظيفة مزدوجة: تكريس الهيمنة الرمزية، وفي الوقت نفسه اختبار حدود الدولة.
الانقسام كهدف معلن لا كعرض جانبي
ما برز في خطاب أوساط الحزب، توصيفه ما جرى باعتباره إعادة لإحياء الانقسام بين 8 و14 آذار. هذا يعني أن: الحزب لم يسعَ فقط لإحياء ذكرى، بل لتحويل المناسبة إلى محطة سياسية لإعادة إنتاج خطوط التمايز التي تراجعت بعد انتفاضة 17 تشرين.
إن إعادة إحياء الانقسام القديم تخدمه في تثبيت شرعيته: إذ يقدّم نفسه من جديد على أنه محور «المقاومة» بمواجهة محور «الخصوم»، بدل أن يبقى في مواجهة مفتوحة مع غالبية اللبنانيين الذين يطالبون بدولة سيّدة خالية من السلاح غير الشرعي.
استخدمت الصورة هنا كوسيلة لإعادة رسم الحدود السياسية والنفسية بين فئتين من اللبنانيين، وكأن الحزب يريد جرّ الجميع إلى ملعب يعرفه ويتقنه.
إلى جانب الرسالة الرمزية، حملت المناسبة دلالات متعلقة بضعف الدولة، الأمر الذي تصرفت الدولة وأجهزتها حياله بشكل ملتبس.
فرغم تعميم رئيس الحكومة بمنع استخدام الصخرة لهذا الغرض، فإن المشهد تحقق فعلياً، ولو جزئياً. ولقد أكد ذلك تصاريح أوساط الحزب، وشكرهم مسؤولين، من قيادة الجيش الى الأجهزة الأمنية ورئيس المجلس. يوحي ذلك أن ما حصل لم يكن «تمرّداً منفرداً»، بل أقرب إلى تفاهم ضمني أو قبول بالأمر الواقع من جانب مؤسسات الدولة. إن هذا الشكر لم يأتِ من فراغ، بل هو اعتراف بأن تمرير الحدث لم يكن ممكناً لولا تساهل أو تواطؤ أطراف رسمية. ما يُضعف أكثر فأكثر صورة الدولة المركزية.
يمكن القول إن ما جرى شكّل انقلاباً رمزياً:
السلطة المدنية حاولت أن تُظهر أنها الممسكة بالقرار (منع الإضاءة).
لكن على الأرض، ظهر الحزب قادرا على فرض صورته ورمزيته، مدعوماُ بغطاء أو صمت أمني وسياسي.
النتيجة: بدت الدولة منقسمة على ذاتها، فيما ظهر الحزب كمن «ينتصر» رمزياً ويكسر قرار رئيس الحكومة.
ولهذا دلالات أبعد للمستقبل، لإن ما حصل عند الروشة يكشف عن اتجاهات أعمق:
اولها تحويل المناسبات إلى معارك رمزية: الحزب لن يتردد في استخدام أي حدث لإعادة تأكيد حضوره الرمزي في العاصمة.
ثانيها استثمار الذاكرة الجماعة بإحياء الانقسام القديم، يعيد الحزب إنتاج خطاب انقسام المجتمع، لأنه يدرك أن هذا الانقسام يوفّر له غطاءً لحماية دوره وسلاحه.
ثالثها اختبار الدولة: كل مرة ينجح الحزب في خرق قرار رسمي أو فرض حضوره الرمزي، تتكرّس صورة ازدواجية السلطة وتآكل هيبة الدولة.
أخيراً، نجح في تأجيج صراع الهويات، فبيروت، التي قدّمت نفسها دائماً كمدينة مدنية منفتحة، تُختَبر اليوم في هويتها: هل هي ملك الدولة أم ساحة عرض رمزي للقوة الحزبية؟ تَستعرض فيها الصراعات المذهبية عضلاتها!!
إن إضاءة صخرة الروشة لم تكن مجرد إحياء لذكرى، بل كانت رسالة سياسية مزدوجة:
أولاً، أن بيروت بكل رموزها خاضعة لحضور الحزب، حتى لو جاء عبر الضوء لا عبر السلاح.
ثانياً، أن الانقسام السياسي القديم قابل للاستدعاء من جديد كأداة لإعادة ضبط المشهد الداخلي.
لكن ما يغيب عن حسابات الحزب أن بيروت، بتاريخها وذاكرتها المدنية، لم ترحم يوماً محاولات إخضاعها، وأن الرموز – مهما كانت مبهرجة أو مضاءة – تظل عابرة إذا لم يتقبّلها الوجدان الوطني.
لكن ثمة دروس يمكن استخلاصها:
ضرورة تحصين القرار السيادي: على مؤسسات الدولة أن توحّد موقفها وألا تترك ثغرات يستغلها أي طرف. فالازدواجية في الموقف الرسمي هي التي تتيح للقوى الموازية للدولة فرض حضورها.
استعادة الفضاء العام: يجب وضع قواعد واضحة لإدارة الرموز الوطنية والمعالم العامة، بحيث لا تتحوّل إلى ساحات صراع رمزي، بل تبقى مشتركة بين جميع اللبنانيين.
تفعيل الرقابة والمحاسبة: أي خرق لقرار رسمي يجب أن يقابله إجراء قانوني واضح، وإلّا ترسّخ الانطباع بأن الدولة متواطئة أو عاجزة.
المجتمع المدني والإعلام: يقع على عاتق الإعلام المستقل والحركات المدنية مسؤولية كسر احتكار الصورة، وتقديم رواية بديلة تُبرز أن الفضاء العام ملك لكل اللبنانيين، لا ساحة استعراض قوة.
المعادلة الخارجية: على لبنان الرسمي أن يعي أن هذه الصور تصل إلى الخارج وتُستثمر في الخطاب الدولي لتصوير لبنان كدولة خاضعة لنفوذ حزب مسلّح، ما يضعف أي فرصة للحصول على دعم اقتصادي أو سياسي.
إن ما جرى عند صخرة الروشة ليس تفصيلاً، بل إنذارٌ مبكر بأن المعارك المقبلة لن تكون فقط بالسلاح، بل أيضاً بالرموز والصور. وإذا لم تُحصّن الدولة نفسها، فإن خسارة هذه «المعارك الرمزية» قد توازي في أثرها خسارة المعارك العسكرية، لأنها تضرب شرعية الدولة وصورتها في الوعي الجمعي.