الإدارة العامة والأسواق
في وضع لبنان الحالي ومع مختلف التحديات، لا بد من رفع انتاجية الادارة العامة كي تستطيع الحكومة القيام بأهم مهماتها. تعودنا في لبنان أن نقوم بالاصلاحات الادارية الكلامية والوعود الجميلة، لكن التقدم على الأرض بقي ويبقى محدودا جدا بالاضافة الى بعض التراجع الأخلاقي والعملي في العديد من الأقسام والوحدات. مع العهد والحكومة الجديدين والتحديات العلنية المعروفة، لن يستطيع اللبناني تغيير تطلعاته بشأن المستقبل الا اذا قامت الحكومة والوزارات المختصة بالعديد من الاصلاحات الأساسية المبنية على مبادئ الشفافية والمحاسبة. للمواطن حقوق وعليه واجبات لكن هذه المعادلة لن تستقيم في ظل الفساد الكبير وسؤ الاداء العام وطريقة التعامل مع المواطن في أبسط الخدمات العامة.
يعتمد لبنان اقتصاد السوق ونجح به. اذا عدنا الى مبادئ اقتصاد السوق، يتبين لنا أنه يرتكز على مفهوم بأن لكل خدمة أو سلعة سعرها. لكن اذا ترك اقتصاد السوق يعمل كليا على هذه الأسس، يعطي نتائج خطيرة بل مقلقة جدا. دلت الفضائح الكبيرة التي عرفتها وتعرفها الشركات الدولية على خطورة اعتماد مبادئ السوق دون حدود رقابية وأخلاقية. فهل هنالك أي دور للأخلاق في اقتصاد السوق؟ هل هنالك شيء لا يستطيع المال شراءه؟ هل يمكن عمليا لأي فرد أو مؤسسة أو مجموعة أن تنجح في اقتصاد السوق اذا اعتمدت الأخلاق أساسا لنشاطاتها التجارية والاجتماعية؟. بناء اقتصاد سوق صحيح يبدأ من القاعدة أي من العائلة أولا وثم المدرسة فالمجتمع عموما. اذا تمت تربية الانسان على أساس أن السرقة شطارة والنزاهة حماقة والكذب ملح الرجال، ماذا يمكن أن ننتظر منه؟ اذا غضت المدرسة النظر عن الكذب والغش والرشوة، فأي مواطن مستقبلي نبني؟.
تدل الوقائع في الاقتصاديات الغربية على أن حجم السوق السوداء يكبر من سنة الى أخرى ليصيب أقدس المبادئ الانسانية والأخلاقية. من النشاطات التي تدخل في السوق السوداء الانفاق الانتخابي لهدف شراء الأصوات الذي يمس حرية الانسان وفكره. تعطي التقديرات أرقاما مخيفة عن حجم السوق السوداء علما أن الأسباب الرئيسية متعددة منها زيادة الثقل الضرائبي بحيث يصبح التهرب منه مربحا. لذا انتشر العمل والانتاج غير الشرعيين في كل الدول تهربا من الضرائب على الدخل وخاصة من المساهمات في الضمان الاجتماعي التي تصل الى حدود مرتفعة.
هنالك قوانين ومؤسسات تصبح مزعجة جدا عندما تؤثر على حرية الانسان. كلنا نريد لأنفسنا دولة القانون والمؤسسات بمعناها العلمي والانساني، شرط أن تحترم الحريات بمختلف جوانبها. فالقيود الظالمة التي تفرضها بعض الدول اليوم على عمل المؤسسات تشجعها على مخالفة القوانين والتوجه نحو السوق السوداء. من الأمثلة المعروفة صعوبة التوظيف والطرد التي تدفع الشركات الى توظيف أجانب غير شرعيين يأتون اليها من الدول المجاورة. كما أن الرقابة المفروضة على الاستيراد والتصدير تدفع العديد من الشركات الدولية الى اعتماد الطرق غير الشرعية. هنالك قوانين واجراءات معقدة تكون غير واضحة للمواطن العادي، لذا تدفعه الى السوق غير الشرعية تهربا بل خوفا من سؤ التطبيق.
تدفع طرق التعامل الضبابية مع القطاع العام الشركات الى اعتماد الرشوة والترغيب للحصول على العقود المغرية ليس فقط في الدول النامية والناشئة وانما أيضا في الدول الغربية. فالفساد في القطاع العام الغربي هو في ازدياد بالرغم من الرقابة الدقيقة والمحاسبة الصارمة. فاذا انتشرت السوق السوداء في الاقتصاديات الغربية المنظمة، كيف يكون الحال في اقتصاديات الدول النامية والناشئة بينها لبنان؟. هل بامكان الدول الناشئة والنامية السيطرة على السوق السوداء وتنمية الاقتصاد الشرعي لمصلحة النمو والتنمية؟ المطلوب ازالة مسببات وجود السوق السوداء بحيث يتحول الجميع الى الشرعية. فاذا كانت الضرائب والقوانين هي سبب وجود السوق السوداء في الغرب، فالفساد الاداري والجشع واقتصاد الجرائم وضعف الديموقراطية هي أهم أسباب الفساد في الدول النامية والناشئة.
السوق السوداء في لبنان واسعة جدا لأسباب سياسية وادارية واقتصادية. فالناتج المحلي الاجمالي الواقعي هو أكبر مما هو معلن رسميا لصعوبة تقييم حجم السوق السوداء. ما يجري في لبنان من محاولات موسمية، بريئة أو غير ذلك، لمحاربة الفساد وتنشيط المؤسسات العامة وأجهزة الدولة مهم وان جاء جزئيا ومتأخرا. فاللبناني أنفق عبر دولته ومباشرة مليارات الدولارات على الخدمات العامة ولم يحصل عليها. لذا من حقه معرفة كيف صرفت هذه الأموال ومن المسؤول عما حصل ويحصل. هدف المراجعة ليس المحاسبة فقط، وانما التعلم من تجربة الماضي لتطوير الممارسة وتحسين الاداء. فاللبناني يعي تماما صعوبة الواقع الاقتصادي والاجتماعي الذي يمر به ويشعر بالمرارة لاستعمال الاصلاح الاداري كسلعة سياسية.
ما يدعو للعجب أن قسماً من المتعاطين بالشأن العام أصبحوا فجأة خبراء في الادارة ومبشرين في الأخلاق والمحاسبة والشفافية. هذه الخطابات الرنانة استهلكت ولا يصدقها اللبنانيون وإن عجزوا اليوم عن المحاسبة والتغيير. ما يطلبه اللبنانيون هي النتائج الجيدة في السعر والجودة في الخدمات والسلع المقدمة لهم من دولتهم، بدأ من الكهرباء الى الخلوي والنقل وغيرها. ما يطلبه اللبنانيون هو أن يكون لدولتهم نظرة سياسية واقتصادية واجتماعية بعيدة المدى تلبية لحاجاتهم وحماية لحقوقهم. فأي لبنان نريد وما هو دوره، بل ما هي الوسائل المتاحة التي تسمح لنا بتحقيق الأهداف؟ لا يمكن للاصلاح الاداري أن ينجح فقط مع «علاج الصدمات» بل يتطلب المتابعة اليومية الدقيقة الواعية التي تمارس من أجهزة الدولة. أنشأ لبنان منذ سنوات وزارة للتنمية الادارية OMSAR لكنها لم تستطع حتى اليوم اعطاء النتائج المطلوبة من ناحية تطوير انتاجية ادارة الدولة التي تفرض محاربة الفساد بل القضاء عليه. المهم متابعة الجهود السياسية المشتركة وتحديث القوانين وتأمين الموارد المالية التي تسمح للوزارة بالنجاح.