مؤامرة السيطرة على «نفط لبنان».. هل يُسَلَّم قطاع الاتصالات إلى محاصصة الفساد في 16 أيلول؟
يوصف قطاع الاتصالات في لبنان منذ سنوات بأنه «نفط لبنان». هذا الكلام ليس من باب المبالغة بل هو قراءة واقعيّة، لأن إيرادات هذا القطاع شكّلت بين عامَي 2010 و2017 ما يقارب 8 إلى 9% من الناتج المحلي الإجمالي أي ما يقارب 2 مليار دولار سنوياً وهو مبلغ يتجاوز إيرادات الجمارك والضرائب المباشرة مجتمعة. هذا القطاع الذي رفد الخزينة اللبنانية بمليارات الدولارات يتحوّل اليوم إلى ساحة صفقات مشبوهة قد تؤدي في 16 أيلول الجاري إلى تسليمه لمصالح خاصة محلية وخارجية تحت غطاء عناوين «الإصلاح» و«التطوير».
في دول مثل الأردن أو مصر يُدار قطاع الاتصالات عبر هيئات ناظمة مستقلة تضع معايير المنافسة وتلزم الشركات بالشفافية… والنتيجة خدمات أكثر استقراراً، أسعار تنافسية وإيرادات ضريبية ثابتة. أما في لبنان فالعكس تماماً هو ما يحصل، كل تعيين وزاري جديد يتحوّل إلى مدخل لتوسيع النفوذ الحزبي/ الميليشياوي وتوظيف الموارد العامة في مشاريع خاصة على حساب حقوق دولة المؤسسات الدستوريّة مع تهديد مباشر للإيرادات السيادية.
نشر ديوان المحاسبة تقريراً يفصّل كيف أهدرت الحكومات المتعاقبة ووزارات الاتصالات 6 مليار دولار أميركي بين عامي 2010 و2020. رست مؤخراً صفقة تطوير نظام NGBSS مع شركة عالمية على قيمة 16 مليون دولار بينما الكلفة الحقيقية بحسب خبراء لا تتعدّى 7 ملايين دولار مع الصيانة لخمس سنوات. أي أن هناك فارقاً يتجاوز تسعة ملايين دولار تذهب إلى جيوب الوسطاء. قيمة مشروع «تطوير البرمجيات» 20 مليون دولار صُمّم ليُمرر خارج المناقصات مع أن مشاريع مماثلة في أسواق مثل تركيا أو المغرب لم تتجاوز كلفتها نصف هذا المبلغ. مشروع إطلاق خدمة 5G الذي يجري الترويج له تقارب كلفته 300 مليون دولار في وقت لا يتجاوز فيه حجم السوق اللبنانية المليوني مشترك فعلي نشط. في المقابل أطلقت قبرص خدمة 5G عام 2022 بتكلفة لم تتجاوز 70 مليون دولار موزعة على ثلاث شركات منافسة.
يشكّل قطاع الاتصالات في سنغافورة 12% من الناتج المحلي ويُعتبر العمود الفقري للاقتصاد الرقمي. ورغم محدودية السوق في الأردن ساهمت المنافسة والحوكمة في خفض الأسعار إلى الثلث وزيادة الإيرادات الضريبية.
أما في لبنان فإن هذا القطاع الذي كان يدرّ على الخزينة ما يفوق 1.5 مليار دولار سنوياً قبل الأزمة، أما اليوم فالإيرادات الفعلية تكاد بالكاد تغطي رواتب الموظفين ومصاريف التشغيل بسبب سوء الإدارة والتوظيف السياسي والتلاعب بالصفقات والتمهيد المتتابع الى ابتلاع القطاع…
الخطر غير محصور بالهدر المالي فقط بل يتعدّاه إلى البُعد الطائفي. إعادة توزيع المناصب داخل شركتَي «ألفا» و«تاتش» وفق منطق المحاصصة الثنائيّة لا تهدّد فقط الكفاءة والشفافية بل تضرب التوازن الوطني وتحوّل القطاع إلى أداة ابتزاز واحتكار سياسي طائفي حزبي بدل أن يكون رافعة للتنمية الوطنيّة الشاملة.
ما جرى في قطاع الكهرباء خير مثال عما يحصل في قطاع الاتصالات، إفشال متعمّد للاستثمار في معامل الإنتاج وتوسع الشركات المحتكرة ضمن الشركة الأم، ثم فتح الباب لشركات استيراد الفيول وأطلاق يد أصحاب المولدات الذين حوّلوا الأزمة إلى احتكارات سيطرة التجارة المربحة ضمن الأحياء على حساب الشركة الأساسيّة، وصولاً الى عنوان المشكلة المستعصيّة على الحلّ والتي يعجز أي وزير أو خبير على حلّ شيفرتها المعقّدة! واليوم يُخشى أن يُطبّق السيناريو نفسه على الاتصالات، إفشال ممنهج يلغي منطق مرجعيّة ومتابعة الدولة الراعيّة، تبرير الخصخصة لصالح مستثمرين محددين محليين مرتبطين باحزاب وميليشيات يتجاوزون كل المعايير ويتشاركون بالشكل مع خليجي على حساب الخزينة والمشتركين، وسيصلون لاحقاً وحتماً الى مرحلة شراء أجهزة حديثة بعيداً عن أعين الرقابة تسمح لهم التحكّم بالسوق دون رقيب أو حسيب كما حصل في قطاع الكهرباء وغيرها من المؤسسات التي نجحوا بتفشيلها.
الاجتماعات المقررة لشركتَي الخليوي في 16 أيلول ليست إدارية روتينية بل مفصلية، التغييرات في مجالس الإدارة، التعيينات والقرارات الاستثمارية ستُرسّخ السيطرة الكاملة بيد مجموعة ضيقة تتحوّل الى دولة عميقة متحكمة مع تغيّر الحكومات والوزراء، وهذا يعني أن ما تبقّى من «نفط لبنان» سيكون قد أُدرج على لائحة الخصخصة المبطّنة والضياع الى الأبد.
المطلوب اليوم من رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة موقف واضح لا لبس فيه يقوم على تجميد القرارات المشبوهة إلى حين إخضاعها لتدقيق مالي مستقل، إحالة الملفات إلى الأجهزة الرقابية والقضاء وإطلاق ورشة إصلاح حقيقية عبر هيئة ناظمة مستقلة فعلاً وشفافة على غرار التجارب الناجحة في المنطقة والعالم.
فكما تسبّب التفشيل في الكهرباء والمصارف بخسارة اللبنانيين لمدخراتهم ومستقبلهم وحتى صحتهم عبر ارتفاع نسبة الأمراض السرطانيّة أكثر من 30% نتيجة أرتفاع مستوى التلوث في بيروت وحدها، فإن التفريط بالاتصالات اليوم سيقضي على آخر مورد سيادي قادر على إنعاش الاقتصاد وسيفتح أبواب الإختراق الأمني وسيتضاعف حجم دائرة تضخم دوالي الفساد على حساب ضمور أعضاء أو مؤسسات الدولة.
الخيار واضح إما إنقاذ «نفط لبنان» كقطاع عام منتج ضمن برنامج تَقَدُم مؤسسات الدولة أو تسليمه لمزاد فيروس المحاصصة والصفقات بأثمان سيدفعها اللبنانيون لعقود قادمة تزيد من نقاط تقدم الدولة الفاشلة…