“ليه ما في مَيْ؟”… وهذا ما نحتاج إليه!

يتميز لبنان منذ وجوده بموارده المائية كالأنهر والينابيع وأمطاره الغزيرة، حيث تتوزع على الجغرافيا اللبنانية آلاف الينابيع ونحو 15 نهرا، إلا أنه عانى هذه السنة من أزمة مياه لم يشهدها من قبل. وتفاقمت هذه الأزمة لعدة أسباب أهمها تراجع كميات الأمطار والخلل الذي أصاب ميزان الاستهلاك لأسباب متعددة. وضرب هذا العجز المائي مياه الشفة والمياه الزراعية والصناعية وطال مختلف المناطق اللبنانية.

نتيجة تفاقم الأزمة، يلجأ المواطن إلى شراء المياه، منها للاستخدام المنزلي من الصهاريج التي تبيع المياه وتتجول بين الأحياء من دون حسيب أو رقيب وشراء المياه المعبأة. كما يتعين عليه أيضا تسديد رسوم سنوية بدل اشتراك لشركة مياه لبنان التي باتت فاتورتها مرتفعة جدا (نحو 200 دولار أميركي للمتر المكعب الواحد، لقاء خدمة ايصال المياه لساعات مرة كل يومين في معظم المناطق)، ما يعني أعباء مالية إضافية في ظل أزمة اقتصادية ومعيشية خانقة، تستدعي من المعنيين اتخاذ تدابير عملية وحلول مستدامة لأزمة المياه المستفحلة.

فما هي أسباب هذه الأزمة؟ وكيف يمكن مواجهة الظروف المناخية القاسية؟

يوضح الباحث والمحاضر في الهيدروجيولوجيا البروفيسور ناجي كعدي لـ«الأنباء» الكويتية «أن أزمة المياه مزدوجة وترتبط أولا بتغير المناخ الناجم عن ارتفاع درجات الحرارة عالميا نحو درجتين، ولبنان من ضمن هذه المنظومة العالمية البيئية ويتأثر كما غيره من البلدان. وأدى هذا الارتفاع في درجات الحرارة إلى تغيير في أنماط الهطول والى ذوبان الثلوج بسرعة، لاسيما في السلسلة الشرقية والغربية من جبال لبنان. وذهبت المياه في الجريان السطحي، أي أنها لم تعد قادرة لتتسرب وتغذي الخزانات الجوفية التي تحتوي على طبقات حامية والموجودة في لبنان على مختلف الأزمنة الجيولوجية، وهذا ما تسبب بتراجع كميات المياه المخزنة، إضافة إلى ارتفاع درجات الحرارة التي تحصل بشكل مفاجئ في فصل الربيع بسبب الرياح الخمسينية التي تأتي حادة، فساهمت أيضا في تسريع ذوبان الثلوج مع تراجع في أنماط هطول الأمطار، ما يعني أن كمية المياه المتاحة أصبحت أقل».

ويلفت كعدي إلى عامل إضافي وهو «زيادة أعداد السكان الذي يضاعف من استهلاك المياه، إلى جانب انعدام البنية التحتية التي في معظمها مهترئة.. كله يوجب العمل على التدابير الإرشادية من خلال وقف الهدر في الشبكات وضبط الاستهلاك العشوائي للمياه، إضافة إلى سوء إدارة المياه من جانب الدولة وغياب الخطط الواقعية، التي إن وجدت لا تنفذ وتكون أحيانا خيالية وتنفيذها صعب ولا تنطبق على الواقع اللبناني، لذا لابد من قيام إدارة جيدة لحفظ الثروة المائية التي تؤمن للمواطن حقه في أن تصل اليه مياه الشفة كما في دول أوروبا».

ويشير كعدي إلى «أن نسب المتساقطات هذه السنة لم تتجاوز الـ 50 في المئة قياسا للعام الماضي. ففي البقاع مثلا الذي يعد أكبر منطقة زراعية وخزان لبنان الزراعي ويعتمد سكانه على الزراعة بشكل أساسي، بلغت نسبة الأمطار ما يقارب 320 مليمترا مكعبا. أما البقاع الأوسط والشمالي الذي تصل نسب المتساقطات فيه إلى 600 مليمتر، فتراجعت الكمية هذه السنة بشكل كبير. ويعد ذلك مؤشرا خطيرا على تفاقم الأزمة المناخية في ظل التراجع في كميات المتساقطات، الذي أدى أيضا إلى جفاف البحيرات في تلك المنطقة، كما غيرها من الينابيع التي تعد بالآلاف فانخفضت فيها كميات المياه بشكل مخيف مثل نبع عنجر الذي انخفضت كمية مياهه إلى أكثر من 80 في المئة عما كانت عليه من قبل، أي لم تتجاوز 0.8 مليون متر مكعب بأقل من 90 في المئة عن العام الماضي بحسب مصلحة مياه نهر الليطاني».

وفيما يحذر من سوء إدارة المياه الفائضة فوق الأرض، يبين كعدي بأن «الاستهلاك الأكبر للمياه في لبنان هو في القطاع الزراعي الذي يصل تقريبا إلى 70% من حجم المياه العذبة، و20% للاستخدام المنزلي و10% لقطاع الصناعة. أما القطاع السياحي فيعتبر جزءا من الاستهلاك المنزلي».
ويوضح كعدي إلى أن مياه الصهاريج تعبأ من الآبار التي لا تزال موجودة. وعندما نقول المياه الجوفية قد جفت، فلا نعني كلها بل قسم منها. وإذا أخذنا على سبيل المثال الخزانات الجوفية الموجودة في البقاع التي هي من الزمن الجيولوجي الرابع، فإن 60 في المئة منها قد جف، وهناك خزانات قديمة لاتزال موجودة، انما كميات المياه فيها تراجعت، ومعظم أصحاب الصهاريج يستفيدون منها لتعبئة المياه وتوزيعها على المنازل.

وقد شهد لبنان في الأعوام الماضية تراجعا في نسبة المتساقطات كما يشير كعدي، ويقول «2013 و2014 وحسب الدراسات كانتا أولى بوادر أزمة التغير المناخي، وقد سبقتها أعوام جافة لم تكن بذات الحدة. وبعد مرور أكثر من 10 سنوات أعوام، هذه السنة أكثر جفافا. وهذا يدعو إلى التنبه من مخاطر التغير المناخي الذي يعمق الأزمة اذا لم نتخذ تدابير استباقية ونكون على استعداد للتغيرات المناخية».
ويعرب كعدي عن اعتقاده في أن بناء السدود «أثبتت عالميا أنها استراتيجية غير مجدية وهي مكلفة. ووفق بعض مراكز الأبحاث الأميركية، فإن الأمطار لا تساهم بأكثر من 20 في المئة من مياه السدود، أي الأمطار التي تجري على السطح وليس ذوبان الثلوج، أي أنها لا تساهم بأكثر من 20 في المئة من حل أزمة المياه، عدا عن طبيعة لبنان الجيولوجية التي لا تسمح ببناء سدود، لذا لطالما طالبنا الجهات المعنية بتطبيق القوانين وتحديثها».

ويتوقف كعدي في حديثه عند الخطط والإستراتيجيات التي توضع على الورق ولا تنفذ، ويقول: «هناك ما يسمى بقاعدة البيانات إذ لا يمكن بناء استراتيجية على قاعدة بيانات خاطئة أو غير دقيقة، فلا قاعدة بيانات عن أحوال الطقس أو المياه. صحيح أن مصلحة مياه نهر الليطاني ومصلحة الأبحاث العلمية الزراعية ومصلحة الأرصاد الجوية في المطار يقومون بما فيس وسعهم لتأمين قاعدة بيانات، لكنها تحتاج إلى أن تكون أكبر وأوسع وأدق لبناء الخطط على أساسها. وتبقى المشكلة في تمويل هذه المصالح لكي تتمكن من توسيع قاعدة بياناتها ومناطق أبحاثها لتكون شاملة ودقيقة. لكن المشكلة تبقى عند أصحاب القرار عند وضع الإستراتيجيات التي لا تطبق بشكلها الصحيح. والتعويل هنا ليس على الدولة، بل على الجمعيات الأهلية والكشفية والمدارس والمواطنين التي تقع على عاتقهم نشر التوعية حول كيفية استخدام المياه».

Leave A Reply

Your email address will not be published.