من الأزمة الأسوأ إلى الأمل بالتعافيّ

يشهد الاقتصاد اللبناني منذ عام 2019 واحدة من أعقد الأزمات في تاريخه الحديث، إذ تراكمت الانكماشات الحادّة والانهيارات النقدية والمالية لتدفع بمستويات المعيشة إلى تراجع غير مسبوق وضعت البلاد أمام تحديات وجودية. غير أن تقديرات المؤسسات الدولية تشير إلى بروز مؤشرات تعافٍ نسبي اعتباراً من عام 2025، قد تعكس بداية مسار انتقالي نحو الاستقرار، ولو أنه يبقى هشاً وقابلاً للانتكاس في حال غياب الإصلاحات الجوهرية.

أولاً: مؤشرات التعافي الكلي

– نمو الناتج المحلي: يُتوقع أن يسجل الاقتصاد اللبناني نمواً حقيقياً في الناتج المحلي الإجمالي في العام 2025 بنحو 4.7%، وهو أول نمو إيجابي منذ عام 2017. ويُقارن هذا التحسّن بانكماشات حادّة في السنوات السابقة، بلغت ذروتها عند -21.4% في عام 2020، ثم -7% في 2021، و0.6% في 2022، قبل تسجيل انكماش إضافي قُدِّر بـ -7.1% في عام 2024.
– التضخم المالي: يُتوقع أن يسجّل معدل التضخم تراجعاً لافتاً في 2025، ليُقدَّر بنحو 15.2% فقط، بعد أن لامس مستويات قياسية تجاوزت 221% في عام 2023، و171% في عام 2022، وتراجع إلى 45% في العام 2024، هذا التراجع يُعزى جزئياً إلى استقرار سعر صرف الليرة اللبنانية منذ منتصف 2023، فضلاً عن تباطؤ ارتفاع أسعار السلع الأساسية نسبياً.

– التوازن الخارجي: أظهر الحساب الجاري تحسّناً تدريجياً، إذ تراجع العجز من نحو 23.9% من الناتج المحلي في 2023 إلى 18.21% في 2024، ويتوقع أن يصل إلى نحو 11.0% فقط في 2025، بحسب تقديرات صندوق النقد الدولي. يعود هذا التحسّن جزئياً إلى انخفاض العجز التجاري، واستمرار تدفق التحويلات المالية من المغتربين، إضافة إلى انتعاش نسبي في قطاع السياحة والخدمات، وتراجع الطلب المحلي نتيجة السياسات الانكماشية.
– المالية العامة: انخفضت نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي من ذروتها المقدرة بنحو 219% في عام 2023 إلى 176.5% في 2024، على أن تبلغ نحو 152.4% في 2025. وقد ترافق ذلك مع تسجيل فائض أولي بسيط يُقدَّر بـ 0.5% من الناتج المحلي، وهو ما يشير إلى بداية استعادة شيء من الانضباط المالي، ولو بشكل محدود.

عوامل التعافي

تعود إلى مجموعة عوامل داخلية وخارجية مترابطة، أبرزها:
• استقرار نسبي في سعر الصرف والقطاع النقدي:
جهود مصرف لبنان وحكومة تصريف الأعمال لضبط الكتلة النقدية بالليرة، واعتماد سعر صرف أكثر واقعية في السوق الموازية، سمحت بقدر من الاستقرار النقدي، الأمر الذي يُشجع على استعادة بعض الثقة في التعاملات التجارية والاستثمارية.
• تحسّن تدفقات التحويلات الخارجية:
رغم تراجعها من 6.7 مليار دولار في 2023 إلى 5.8 مليار دولار في 2024، تبقى تحويلات المغتربين مصدراً أساسياً للعملات الأجنبية وتغذية الاستهلاك الداخلي، ومن المتوقع أن تستقر أو ترتفع نسبياً مع تحسّن أوضاع بعض دول الاغتراب.
• إعادة تنشيط القطاعات الداخلية:
زيادة الطلب المحلي بعد سنوات من الكساد، وارتفاع نسبي في الاستهلاك مع تراجع الضغوط التضخمية جزئياً، يُتوقع أن يدعما النمو في 2025.
• العوامل الجيوسياسية:
أي تهدئة إقليمية أو تسوية داخلية قد تنعكس إيجاباً على مناخ الأعمال والاستثمارات، في حين أن استمرار التوترات قد يهدّد هذه التوقعات.
• احتمال تحسّن بيئة السياسات والإصلاح التدريجي:
يرتبط سيناريو النمو بتحقيق تقدّم ملموس في الإصلاحات، بما في ذلك الإطار المالي والنقدي، والحوكمة، وإعادة هيكلة القطاع المالي. أي تقدّم واقعي في هذه الملفات ينعكس سريعاً على الثقة والتعاملات، حتى قبل اكتمال المعالجات البنيوية. لكن البنك يضع هذا ضمن شروط وتعقيدات واضحة، ما يعني أن المخاطر على التوقعات مرتفعة.
يبقى مستقبل الاقتصاد اللبناني مرهوناً بقدرة السلطات على إدارة المخاطر السياسية والمالية بفعالية، وبمدى التزام القطاعين العام والخاص بالإصلاحات الضرورية لتعزيز الثقة واستقرار الأسواق. كما يشكل بناء بيئة مؤسساتية شفافة وقادرة على مواجهة التحديات، إضافة إلى الاستفادة من أي فرص للنهوض الاقتصادي، عاملاً حاسماً في ضمان استدامة التحسّن المحتمل وتحويله إلى نمو حقيقي ينعكس إيجاباً على حياة المواطنين على المدى المتوسط والطويل.

* أكاديمي وباحث اقتصادي

Leave A Reply

Your email address will not be published.