«فخامة» حاكم مصرف لبنان.. تحديات الشروط الخارجية والسيادة النقدية

 

من كميل أبو سليمان الى كريم سعيد، مروراً بفيليب جبر وسمير عساف، وصولاً الى جهاد أزعور؛ أسماء مطروحة لتولي منصب حاكمية مصرف لبنان، وهي جميعها موضوعة تحت المجهر الدولي قبل المحلي، نظراً لأهمية الدور الإصلاحي والتغييري الذي سيكون مناطاً بالحاكم الجديد، في ضوء المتغيرات التي طرأت على الوضع اللبناني برمته منذ إنتخاب العماد جوزاف عون رئيساً للجمهورية، والتحول الكبير في أداء السلطة الذي يحصل في لبنان، خصوصاً أنه سيكون لبعض الدول عين المراقب الأساس، ولا سيما الدول الأعضاء في المجموعة الخماسية المعنية بالملف اللبناني، وشروط الإصلاحات الأمنية والسياسية والاقتصادية والمالية، حيث أن موقع حاكم مصرف لبنان يكتسب أهمية كبرى في هذه المرحلة، لجهة التفاوض مع صندوق النقد وإعادة هيكلة القطاع المصرفي ومصرف لبنان، ووضع خطط للتعافي الاقتصادي والنقدي.

بناءً عليه، فإنه من الطبيعي أن تسعى القوى السياسية والمصرفية لتزكية أسماء تترك لها شعوراً بالارتياح، علماً أنّ القرار أولاً وأخيراً بيد القيمين على العهد الحالي، الذين يجب ألّا يتعثروا في الامتحانات الأولى المرتبطة بالترجمة الواقعية لمضمون خطاب القسم والبيان الوزاري، دون أن نسقط من الإعتبار الدخول المباشر للدول المؤثرة على الواقع اللبناني الجديد على خط التعيين، سواء بالأسماء أو المواصفات، ما يجعل يد الساسة «قصيرة» في عملية الحسم النهائي، خلافاً للعقود الماضية، التي كان لها اليد «الطولى» في تثبيت الحاكم السابق رياض سلامة في منصبه لحوالي ثلاثين عاماً، ضمن سياسية المحاصصة والمحسوبيات التي كانت قائمة، خصوصاً أنه خلال الأعوام الماضية كان هناك نوع من التنافس بين مصلحة مكونات الطبقة السياسية الحاكمة ومصلحة الوطن والمواطن على السيولة المتوافرة في لبنان، ونجحت السلطة في فسادها وهدرها للمال العام وخسر الوطن والمواطن نتيجة الأداء السياسي العاطل الذي كان له تداعيات اقتصادية واجتماعية.

فالمادة 18 من قانون النقد والتسليف تنصّ على أن الحاكم يُعيّن لست سنوات بموجب مرسوم يُتخذ في مجلس الوزراء بناءً على اقتراح وزير المالية. أما نواب الحاكم الخمسة، فيتم تعيينهم بمرسوم في مجلس الوزراء بناءً على اقتراح وزير المالية واستشارة الحاكم.

لكن اختيار حاكم جديد لمصرف لبنان في الوضع الحالي أمر بالغ الأهمية، ويجب أن يكون بعيدا عن منطق المحاصصة السياسية، وأن تتمتع الشخصية المنتخبة بكفاءات علمية وتجربة عملية وإرادة سياسية قوية للعمل من أجل معالجة الأزمة المالية المستمرة منذ عام 2019، إذ أنّ هناك مواصفات مطلوبة في شخص الحاكم، أبرزها القيام بالإصلاحات التي طال انتظارها، وأن يتمتع بالمؤهلات والكفاءة لتولي منصب كهذا، وألّا يكون هناك أي شبهات فساد حول اسمه، فالمرحلة صعبة والتحديات كبيرة، وأمام الحاكم الجديد دور كبير على صعيد القطاع المصرفي الذي عانى من انهيار تاريخي ولا يزال يعيش أزمة كبرى، لا سيما وأن الحاكم يتمتع بصلاحيات واسعة، والشريك الأساس في إنتاج القرار الاقتصادي في لبنان، مع وزارة المال ووزارة الاقتصاد ضمن التوجهات العامة للبيان الوزاري للحكومة الذي ينبثق من خطاب القسم.

لذلك فإن موقع حاكم مصرف لبنان يكتسب أهمية كبرى نظراً للصلاحيات الواسعة المعطاة له بالقانون، فهو يتشارك مع وزارة المال في تحديد السياسات النقدية ومن هذا المنطلق يلعب دوراً اقتصادياً، وينظم القطاع المالي ويضع معايير الأداء للمصارف ويمارس الرقابة عليها، وإضافة إلى ذلك يشرف «المصرف المركزي» على هيئة سوق المال كما يدير المؤسسات التي استحصل عليها من أصول مصارف مفلسة مثل «طيران الشرق الأوسط» و»كازينو لبنان» عبر أصول «بنك إنترا»، فوفقاً لأحكام الدستور اللبناني يمتلك مجلس الوزراء صلاحية إصدار القوانين المتعلقة بالمال والاقتصاد والنقد.

أما الدور الأبرز للحاكم فهو إدارة السياسة النقدية للبلاد وتنظيم القطاع المالي، إذ يقع على عاتقه يقع عبء حفظ استقرار العملة الوطنية وعمليات الإصدار كما إدارة الاحتياطات النقدية بالعملات كافة. كما أن لحاكم مصرف لبنان أيضاً صلاحية الإشراف على المصارف والمؤسسات المالية، وهو يلزمها باللوائح والتعاميم الصادرة عنه ويقر موازنة المصرف المركزي. كذلك فإن حاكم مصرف لبنان يترأس هيئة الرقابة على المصارف التي لها دور في مراقبة مدى امتثال البنوك والمؤسسات المالية للقوانين المحلية والدولية وتنفيذ الرقابة على المصارف، كما يشرف على عمليات مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، فيسهم مصرف لبنان في فرض عقوبات على المخالفين، فضلاً عن أن الحاكم ينظم كل الشؤون المرتبطة بالتجارة الخارجية.

فإذا كان مجلس الوزراء يمتلك صلاحية إصدار القوانين المتعلقة بالمال والاقتصاد والنقد، فإن حاكم مصرف لبنان فهو الشخص المختصّ بإدارة السياسة النقدية للبلاد، وتنظيم القطاع المالي، فهو يطبق السياسات الموضوعة لتحرّك الاقتصاد الوطني، ويقع على عاتقه عبء حفظ استقرار العملة الوطنية وعمليات الإصدار وإدارة الاحتياطات النقدية بالعملات كافة.

هذه الصلاحيات الواسعة لحاكم مصرف لبنان، لا يمكن إعتبارها في هذا الظرف الدقيق «إمتيازات» بقدر ما هي تحديات كبيرة ومسؤوليات جسام ستلقى على عاتقه، للتمكن من الشروع في عملية الإصلاح والتعافي «الشاقة»، التي تنتظره.

تبقى التحديات التي ستواجه الحاكم الجديد وهي كثيرة، وأهمها:

تحسين التصنيف الائتماني للبنان عبر شراكة مصرف لبنان مع وزارتي المال والاقتصاد لإطلاق عجلة التفاوض مع حاملي سند الـ «يوروبوند» والدائنين للحكومة اللبنانية لإعادة جدولة وهيكلة الدين العام، وكيفية التعامل مع الدائنين، جنباً إلى جنب مع إنجاز التدقيق الجنائي الذي طال انتظاره.

والتحدي الثاني هو إطلاق عجلة التفاوض مع صندوق النقد الدولي بعد انعدام ثقة الأسرة الدولية بالأداء السياسي في لبنان، وسط تساؤلات كثيرة حول قدرة المجلس النيابي الحالي على مواكبة النظرة المستقبلية التي تجسدت في خطاب القسم لرئيس الجمهورية والبيان الوزاري، وإنقاذ لبنان وإنعاشه وأخذه نحو النمو الاقتصادي.

أما التحدي الآخر الذي سيواجه حاكم مصرف لبنان الجديد فهو كيفية عودة الانتظام للقطاع المصرفي وإخراج لبنان من اللائحة الرمادية كعنصر أساس وممر إلزامي لعودة الانتظام إلى العمل المصرفي في لبنان.

كذلك على الحاكم إعادة النظر في الهندسات المالية التي جرت في عهد رياض سلامة، ومتابعة ملفات الفساد وملاحقة المتورطين قانوناً، وإجراء مراجعة لقانون النقد والتسليف وتعديله لتفعيل الرقابة والمحاسبة.

الخلاصة، إن «فخامة» حاكم مصرف لبنان (العتيد) مع بداية «لبنان الجديد» يُنظَر إليه بالأهمية نفسها لإنتخاب رئيسي الجمهورية والحكومة، ولا بد أن يكون إسمه من ضمن «سلة» التجديديين، ليكون منسجماً مع توجهات العهد الإصلاحية، حيث يتعين عليه التنسيق مع الحكومة والمجلس النيابي لإصدار التشريعات الإصلاحية، ما يجعله أمام تحدي خارجي وداخلي، من خلال تنفيذ الخطة التعافي الشاملة (هي شرط إلزامي من الدول المانحة للمساعدة على دعم لبنان)، والمحافظة على «السيادة» النقدية.

Leave A Reply

Your email address will not be published.