«التغيير الخلَّاق» في 2025

لم يعد تحقيق النمو ممكنا في 2025 كما في الماضي، حيث كان مرتكزا على تحريك عوامل الانتاج الكلاسيكية أي العمل، رأس المال، الطاقة والمواد الأولية. أما اليوم، أصبح العامل الأهم في الانتاج هو التكنولوجيا بجوانبها وأقسامها المختلفة من ذكاء اصطناعي وغيره بالاشتراك مع العوامل الأربعة الأخرى. اعترفت مؤسسة جائزة نوبل السنة الماضية بأهمية التكنولوجيا اذ وزعت الجوائز لمكتشفي ومطوري التكامل بين التكنولوجيا والاقتصاد التقليدي.
تقوم التحديات الصعبة على معرفة كيف يستفيد المجتمع من التكنولوجيا. لا يمكن استبدال الانسان بالآلات، بل يجب معرفة كيفية رفع انتاجية العامل والموظف عبر استعماله المناسب للتكنولوجيا الحديثة الفاعلة. لم يُعطِ النظام الرأسمالي النتائج الجيدة التي انتظرناها، وقد بينت ذلك فترة الكورونا التي لم تكن لتحصل لو عملت الرأسمالية بالطريقة الفضلى خلال العقود الماضية. لا يكمن الحل في نظرنا باستبدال النظام الرأسمالي بأخر، بل بتطوير القواعد التي يحتاج اليها وأهمها الابداع والتجدد المتواصل والدائم.
التكنولوجيا الخلاقة هي التي تسمح للمخترعين باستبدال السلع الموجودة بأخرى جديدة انتاجيتها ونوعيتها أعلى، مما يرفع المستوى المعيشي. بدأ التفكير مجتمعيا بأهمية التكنولوجيا الخلاقة خلال فترة الكورونا أي عمليا في 2019 حيث دمرت وظائف عدة وتغيرت مواقع الانتاج ووسائل الاتصالات اعتمادا على التكنولوجيا الجديدة. خلال 2019 حصلت افلاسات عدة لعدم قدرة تلك الشركات على تغيير طرق أعمالها ووسائل ادارتها للانتاج. في نفس الوقت، هنالك من استفاد من الأوضاع لانتاج سلع جديدة معتمدة على تكنولوجيات جديدة وطرق ادارة فاعلة. من نتائج الخضات الاجتماعية الجدية التخلص من سلع وربما خدمات لم تعد مناسبة، وخلق أخرى جديدة تخدم المجتمع أكثر.

ساهمت الكورونا بقساوتها وأضرارها بتوعية المجتمعات على ضرورة التغيير. كان الجو الدولي السائد يرتكز على أن النظام الرأسمالي، بسبب العولمة والاحتكار وتوسع فجوة الدخل واهمال الفقراء وارتفاع البطالة، لم يعط النتائج المنتظرة بل ربما لم يعد صالحا لضمان الاستقرار الاجتماعي. شاء «التغيير الخلاق» لينقذ الرأسمالية ويطورها ويحسنها حيث تم استبدال القديم بالجديد المرتكز على التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي والعديد من النظريات والعلوم الحديثة. كان يجب أن يتم هذا الاستبدال، وقد حصل في العديد من الحالات من دون تأثيرات مجتمعية سلبية كبيرة على البطالة والصحة والسعادة. يمكن وصف قوة «التغيير الخلاق» بالقدرة على تطوير الرأسمالية وانتاج اقتصادات تؤدي الى الازدهار.
تغيرت عوامل النمو كثيرا خاصة منذ 2019 حيث أصبحت للمعرفة أهمية أكبر وأصبحت في قلب عمليات النمو. لم يحصل «التغيير الخلاق» من دون مساعدة، أي دعم حكومي وحماية للملكية الفكرية تشجيعا للمخترعين والمتفوقين. من فوائد التغيير الايجابي الخلاق والابداعي حماية عمليات النمو وبالتالي انقاذ الرأسمالية من الرأسماليين أنفسهم. الهدف فوز الجديد على القديم المرتكز على الجشع والكسل، وبالتالي تعميم النمو والثروات على الجميع.
كيف يمكن تقييم «التغيير الخلاق» لمراقبة تطوره عبر الوقت وللمقارنة بين المجتمعات. يمكن اعتماد عدد براءات الاختراع السنوية الوطنية كمؤشر للتجدد. نجد ان أكثرية الاختراعات تأتي من الشباب والشابات كما من الشركات الصغيرة. فالحيوية الموجودة في الشركات الصغيرة وفي عقول الشباب غير موجودة في الشركات الكبيرة وعند الكبار والمسنين، وبالتالي النجاح في الانتاج منتظر. تشير التجارب الى أن الدول التي تنجح شركاتها في الابداع والتغيير الخلاق هي التي تحافظ على الاستقرار الاجتماعي داخلها، أي تحارب البطالة وتعالج المشاكل النابعة من توسع فجوات الدخل والثروة. توسع هذه الفجوات يؤثر سلبا على النمو والتنمية.

يعاني الاقتصاد الرأسمالي من هذه الفجوات، واذا أضفنا اليها مشاكل المناخ النابعة أصلا من طرق الانتاج الملوثة يتبين لنا لماذا تفاقمت أزمات النظام الرأسمالي. ما هي خصائص أسواق التجدد وما هي الدروس التي يمكن اقتباسها من معظم القطاعات الاقتصادية؟.
أولا: هنالك علاقة ايجابية بين المنافسة والتجدد الخلاق. فالمنافسة مفيدة للتجدد اذ تدفع المشاركين الى الابداع للفوز. هنالك أيضا علاقة ايجابية بين المنافسة ونمو الانتاجية أي زيادة الثروات وتحسن الوضع المعيشي. فالمنافسة تدفع الشركات الى تجديد وسائل الانتاج لرفع انتاجيتها والوصول الى الأسرع والأفضل. فالشركات التي تضع حواجز أمام المنافسة تسيء الى التجدد وبالتالي الى النمو. شاهدنا في قطاع التكنولوجيا مواجهات حامية بين السلطات القضائية والشركات العملاقة التي تعرقل نجاح الشركات الناشئة وتضع حواجز أمام أي منافسة مستقبلية.
ثانيا: هنالك مسيرة نمو واضحة للشركات من المستوى الناشئ الى الوسطي كما هنالك مسيرة أخرى واضحة بين المرحلة الوسطية والعالية. تكمن المشكلة في أن العديد من الشركات يبقى في الخانة الوسطية ولا يستطيع الخروج منها وبالتالي يفقد حيويته. فالتجدد هي مسيرة مستمرة ومن يجدد مرة واحدة فقط مثلا لا ينجح، بل يبقى في الوسط طويلا.
ثالثا: هنالك شركات تكبر ببطء لكنها لا تستطيع القفز بخطى كبيرة لتعزز وجودها في الأسواق وتلبي رغبات المواطنين. هذا لا يضر بالشركات لكن يمنعها من الوصول الى الفوز الكبير الذي رأيناه مع شركات التكنولوجيا حيث كبرت من لا شيء لتسيطر على الأسواق. لن يحصل التغيير الخلاق من تلقاء نفسه بل يحتاج الى خطط وأفكار كما الى مؤسسات رسمية متخصصة تعزز النجاح، والى قوانين ترعى المسيرة والى تمويل ميسر يسمح للمبدعين باطلاق أعمالهم.
يحاول اللبنانيون الانتقال من مراحل سوداء الى مستقبل فاضل. هذا يتطلب الكثير من العمل ومن «البناء الخلاق» المرتكز على الأفكار الجديدة أعلاه. ما يعرقل هو خاصة العمل السياسي الداخلي السلبي المبني على فكرة «أنا أو لا أحد». لم نتحرر بعد من الأنانية القاتلة التي دمرت الوهج الاقتصادي الذي عرفناه حتى 1975 وتقف في وجه أي تقدم ملموس اقتصادي وسياسي.

Leave A Reply

Your email address will not be published.