الاقتصاد التضامني هدفنا
كانت هنالك طريقتان لبناء الاقتصاد، الأولى يلعب فيها القطاع العام الدور الأساسي والثانية ترتكز على القطاع الخاص ودوره في بناء القدرات الانتاجية أو ما يعرف بالاقتصاد الرأسمالي. لا يمكن لأي اقتصاد أن ينمو بسرعة وقوة من دون تعاون مع اقتصادات أخرى مجاورة أو بعيدة ضمن تحالفات أو وحدات أو تجمعات. مع الوقت والتجارب تبين أن هنالك طريقة ثالثة لتطبيق سياسات النمو، بالاضافة الى مساهمة القطاعين العام والخاص، وهي الاقتصاد التضامني. يكون هنالك ضمنه دور كبير للمناطق في تحقيق النمو وتنفيذ سياسات التجدد التي تغير وجه الاقتصاد. ستكون عندها السياسات العامة مختلفة بحيث تدعم مباشرة طموحات كل الشركات بما فيها الصغيرة والمتوسطة كما خاصة الناشئة. لا ينكر أحد أن العولمة وحتى ما تبقى منها تفرض على كل الاقتصادات أن تكون تنافسية بالطريقة التي تختارها، علما أنه لن يكون هنالك تطور من دون تجدد في كل الشركات.
لم يعد ممكنا في عالمنا اليوم لأي دولة حتى مع اعادة انتخاب ترامب من أن تحمي صناعاتها كالسابق وأن تسوق لقطاعاتها التي تعتبرها رائدة وذات مستقبل واعد. لن تتمكن أي دولة حتى أميركا من اعتماد سياسات حمائية عامة تعزل نفسها معها عن الاقتصاد الدولي أو تطور نفسها على حساب الدول الأخرى. هنالك سياسات جديدة يعتمدها المجتمع الدولي وهي أفضلية البطالة على العجز المالي، أي لا يمكن التضحية بالانسان ومعيشته لابقاء العجز المالي ضمن حدود مرسومة سابقا. طبعا التطرف في كل شيء مضر لكن تطبيق سياسات انسانية واقعية مطلوب لحماية الانسان. فشلت التجارب الحمائية السابقة لأنها لم تعالج المواضيع الأساسية أي الصحة والتعليم والغذاء والأمن الاجتماعي بل ركزت على المنافسة والنمو والانفتاح والتجارة وهي غير كافية.
يبنى الاقتصاد التضامني على علاقات اجتماعية قوية بين المواطنين تحسن الوضع العام وتعزز الانتاجية عبر الخلق والتجدد. ترتكز سرعة البناء وسلامتها على علاقات واضحة وشفافة بين المواطنين وليس على مجموعات متناحرة تحاول الاساءة الى بعضها البعض كما يحصل في لبنان. هنالك دائما فروقات بين انسان وآخر، انما المهم أن يكون هنالك تعاونا بين المجموعات وليس تناحرا دائما لأسباب اقتصادية أو سياسية أو دينية أو غيرها. تبنى هذه العلاقات على شراكات وتبادل للمعلومات تؤسس لاقتصادات جديدة ذات انتاجية عالية.
من أهم الركائز التي يبنى عليها الاقتصاد التضامني الجديد هي الثقة التي تسهل الانتاج والعلاقات بين العمال وأرباب العمل، وضمن المجموعتين. هنالك أهمية كبيرة للحوار والتواصل، لكن لا مانع من حصول منافسة ضمن القواعد لأن هذا يقوي النتائج في حجمها ونوعيتها. في الاقتصاد التضامني هنالك دور أكبر للانسان والشركة كما للمؤسسات الاقليمية في النمو، ودور أقل للدولة المركزية في رعاية العلاقات الاقتصادية الداخلية. يعتمد الاقتصاد التضامني الوطني على التواصل والتعلم والشراكة في بناء المستقبل المنتج.
كيف نحدد التجدد الذي يبنى عليه المستقبل الاقتصادي التضامني؟ هنالك التطور التكنولوجي في الشركات والصناعات وهذا طبيعي كما هنالك التجدد المؤسساتي والقانوني في المناطق والدول. يعني التجدد أيضا التعاون عبر المناطق وحتى عبر الحدود الوطنية لتطوير الانتاج بحيث تراعى التحديات البيئية أكثر. «في التعاون قوة» وهذا ما فهمته الدول الغربية منذ عقود وما زلنا نرفض فهمه في مجتمعاتنا العربية بالرغم من تقاربنا الاجتماعي، أكثر مما هو موجود في أوروبا وغيرها. هنالك مجهود وطني عربي نجحت به دول عدة كالمغرب ومصر ودول مجلس التعاون الخليجي، وأخرى كلبنان فشلت به اذ أن أنانيتنا قوية وتتفوق على مصالحنا الاقتصادية. هنالك دول بينها لبنان ما زالت فردية في جهودها ونتائجها، وبالتالي لا تحقق التقدم الممكن الذي نريده لانفسنا. حتى التعاون والتحالف والتعاضد والتضامن غير موجودين في لبنان بالرغم من حاجتنا اليها ومعرفتنا بذلك. نظام التجدد يحتاج الى التواصل والتعاون كما الى الانجازات الشخصية للوصول الى شاطئ الآمان في كل القطاعات. هل يمكن تقوية روح التعاون بين اللبنانيين خاصة في قطاع الأعمال؟ أم أن هذا مستحيل أو يتطلب عقودا من التربية المدنية والتعلم والتعليم لخلق ربما مواطن جديد؟
ما هي نماذج التجدد التي تصلح لمجتمعاتنا؟
أولا: هنالك من ينتقد نظريات «ماركس وانجلز» في هذا الايطار لأنهما ركزا على المؤسسات والقيادات ودورهما، وأهملا مساهمة الانسان المواطن ركيزة التنمية. هنالك فرص دائمة لجعل عملية التجدد اجتماعية أي مبنية على جهود كل أفراد المجتمع وليس على مجموعة صغيرة مهما كانت كفاءتها عالية.
ثانيا: يعتقد الاقتصادي «شومبيتر» أن التجدد هي عملية تدمير وثم ابتكار، أي يرسل القديم الى النفايات ويدخل الجديد الى الاقتصاد. في رأيه عملية الابتكار هي ركيزة التقدم والتجدد وليست المنافسة المبنية على الأسعار. هنالك ضرورة لوضع أسس لنظام وطني للتجدد يسمح بتبادل المعلومات أساس التعلم والتقدم. هذا يتطلب نظام تواصل بل اتصالات فعالة وسريعة تستفيد من تكنولوجيا اليوم لتبني للمستقبل. هذا يتطلب أيضا توافر الثقة بين المشاركين اذ من دونها لا تقدم ولا علاقات جيدة. هذا يتطلب أيضا رغبة في التقدم من قبل جميع الأطراف أي التعاون الايجابي المتعدد الاتجاهات.
ثالثا: ليس هنالك نظام اقتصادي يتفوق على الآخر في تشجيع التعليم ونشر المعرفة وتحقيق التجدد. لكن للنظام السياسي الاجتماعي دور في تفعيل العلاقات بين المواطنين حتى في أصعب الظروف. أذا كانت الشركة قلب النظام التجددي، فالدولة هي الراعي الأساسي للعملية أي القوانين والاجراءات والبنية التحتية والاجتماعية. هنالك دور أيضا للجمعيات كغرف التجارة والنقابات في رعاية العلاقات والحفاظ على مصالح الجميع. بالرغم من أهمية التواصل الاقليمي والدولي، تبقى المصالح الوطنية الأهم في ترسيح التضامن وتطوير التجدد.