“شنط” الدولارات من إفريقيا تختفي
ما هي تأثيرات الحرب على حركة تحويل الأموال إلى لبنان؟ هذا السؤال مطروح من منطلق أن التحويلات هي عصب الاقتصاد اللبناني، خصوصاً منذ الانهيار قبل خمس سنوات. وتُظهر الوقائع والأرقام أن التحويلات عبر القنوات الشرعية زادت بنسبة 20%، في حين تراجع تدفّق الأموال غير الشرعية إلى مستويات لا يُستهان بها.
أبرز الاسباب التي آلت إلى تهديد لبنان في السنوات الأخيرة الماضية، بإدراجه على اللائحة الرمادية لمجموعة العمل المالي “فاتف”، هي جهوده البسيطة أو المعدومة لمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، بالإضافة إلى اقتصاده النقدي المتنامي بعد اندلاع الأزمة المالية المصرفية في 2019 وازدهار عمليات تبييض الأموال نتيجة تحوّل معظم التعاملات المالية من المصرفية إلى النقدية، ما أفسح المجال وسهّل تبييض الأموال لدرجة استدعت زيارة وفد من الخزانة الأميركية إلى لبنان لتحذيره مراراً من إمكانية إدراجه على اللائحة الرمادية إذا لم يضبط التحويلات المالية النقدية التي تدخل إلى لبنان بطريقة غير شرعية، والتي لا يتمّ التصريح عنها ولا يمكن تتبعها لأنها لا تمرّ في النظام المصرفي. هذه التحويلات النقدية كانت تتمّ عبر قنوات التهريب والحدود البرية غير الشرعية بالدرجة الأولى، ومن ثمّ عبر القنوات الجوية، أو ما يُسمّى بأموال “الشنط” التي كانت تدخل إلى لبنان من دون التصريح عنها إما خلسة أو بـ”قبّة باط”من الأجهزة المعنية، بكميات كبيرة، من دول متعدّدة أبرزها الدول الأفريقية.
هذه الأموال التي تشكلّ جزءاً كبيراً مما يعرف بالاقتصاد الأسود القائم في لبنان منذ سنوات عديدة، والمقدّر بنسبة 60% من حجم الاقتصاد الاجمالي، خفّت وتيرتها بنسبة كبيرة بطبيعة الحال مع اندلاع الحرب محلياً، ومع عرقلة قنوات التهريب البرية بسبب الحرب، وشبه تعطّل قنوات التهريب الجوية نتيجة توقف شركات الطيران العالمية كافة عن تسيير رحلات إلى لبنان وحصر هذا الأمر بشركة طيران الشرق الاوسط. علماً أن من كانت تقصده مجموعة العمل الدولي بالاضافة إلى صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والخزانة الأميركية في تحذيراتها المتواصلة من تبييض الاموال وتمويل الارهاب، كان عملياً “حزب الله”، خصوصاً أنها أتت مراراً على ذكر مؤسسة القرض الحسن التابعة لـ”حزب الله” والتي هي خارج أي رقابة رسمية، والتي تعتبر مصادر الأموال التي تقرضها لعملائها غير معروفة.
في الأرقام، تبلغ قيمة التحويلات المالية الرسمية إلى لبنان حوالى 7 مليارات دولار سنوياً، وهي التحويلات المُصرّح عنها، والتي تمرّ عبر القنوات الرسمية. أما التحويلات النقدية التي لا تمرّ عبر النظام المصرفي والتي تشمل أموال الحقائب المصرّح وغير المصرّح عنها، فلا أرقام رسمية عنها، بل تقديرات تتحدّث عن 8 مليارات دولار، نظراً إلى تقديرات حجم الناتج القومي عند 30 مليار دولار، بعد إضافة حجم الاقتصاد الأسود وغير الشرعي اليه.
في هذا السياق، اعتبر الرئيس السابق للجنة الرقابة على المصارف سمير حمود أن هناك توقفاً موقّتاً للتدفقات المالية غير الشرعية أو حتّى الشرعية، لأن اهداف تدفق تلك الاموال لم تنتفِ، خصوصاً أنها لم تكن تستهدف الادخار بل إن جزءاً منها كان مخصّصاً لتمويل جهات عسكرية وحزبية، وبالتالي فان شحن الأموال غير الشرعية لن يكون أمراً مستحيلاً نتيجة الحرب الدائرة، لأن وسائل الشحن إن في البرّ أو الجوّ ما زالت متاحة، رغم أنها قد تكون معرقلة بعض الشيء.
أما بالنسبة للجالية اللبنانية في أفريقيا، والتي كانت تشكّل النسبة الأكبر من حجم التدفقات النقدية الشرعية إلى لبنان منذ عقود، رأى حمود أن هناك توقفاً موقّتاً لتلك التدفقات نتيجة تراجع حركة الوافدين إلى لبنان، لكن هذه التدفقات ستعود إلى زخمها فور توقف الحرب، معتبراً أنه في حال استقرار الاوضاع وتوقف الحرب، فإن ارقام التحويلات الرسمية وغير الرسمية ستتضاعف!
كما أوضح لـ”نداء الوطن” أن تقلّص حجم التدفقات النقدية غير الشرعية لن يؤثر إيجاباً على سمعة لبنان المتعلّقة بكونه مركزاً لعمليات تبييض الأموال، طالما أن هناك أموالاً في البلاد تموّل عمليات عسكرية، وطالما هناك عمليات تهريب للبضائع وفساد مستشرٍ في القطاع العام.
من جهته، أوضح الباحث في الدولية للمعلومات محمد شمس الدين أن حجم التدفقات النقدية من خارج النظام المصرفي، أي عبر المطار أو الحدود البرية، غير معروف، إلا أن التقديرات تفيد بأنها توازي قيمة التحويلات الرسمية. معتبراً أن حجم تلك التحويلات يجب أن يكون قد تراجع في الفترة الأخيرة بعد اندلاع الحرب محلياً، وتوقّف رحلات شركات الطيران الأجنبية، “وذلك في حال اعتمدنا المنطق، إلا أن هذا التراجع قد يكون ظرفيّاً وليس دائماً، علماً أننا نجهل نسبته، وقد يعوّض بأضعاف التحويلات عندما تستقرّ الأحوال”.
في المقابل، لفت شمس الدين إلى أن التحويلات الرسمية عبر النظام المصرفي قد زادت بعد اندلاع الحرب بنسبة 20 في المئة بعد إحجام المغتربين عن زيارة لبنان حالياً، وبالتالي توقف التدفقات النقدية التي كانت ترسل باليد او بالحقائب، وتحوّلها إلى النظام المصرفي وبنسبة أكبر، نظراً إلى الدعم المالي الأكبر الذي يرسله المغتربون إما لعائلاتهم أو كمساعدات مالية للنازحين. إلا أن الأموال غير الشرعية التي كانت تدخل إلى لبنان، فلا يمكن تقديرها أو الجزم بأنها توقفت، لأن المهرّبين دائماً ما يجدون وسيلة لايصالها، مع الإشارة إلى أن القنوات البرية مع سوريا ما زالت قائمة كما أن “الشنط” التي كانت ترد إلى لبنان مباشرة من الدول الأفريقية، يمكن أن تأتي من دول أخرى اليوم!
لزوم ما لا يلزم
أما بالنسبة إلى تداعيات إدراج لبنان على اللائحة الرمادية على عمل النظام المصرفي، فهي وفق ما يؤكده معظم المصرفيين، ضئيلة، لأن التعامل مع مصارف لبنان من قبل المصارف العالمية المراسلة، والتي أصبح عددها لا يتجاوز الثلاثة، هو أصلاً متشدّد وقائم على اعتبار لبنان وكأنه مدرج على اللائحة الرمادية منذ سنوات. إذ إن التدقيق بالتحويلات المالية بات إجراء اعتيادياً من قبل، والتأخّر في إتمام التحويلات لمدة طويلة هو ايضاً إجراء معتمد من قبل، وحصر التحويلات المالية باسماء العملاء المعروفين مسبقاً هو أيضاً إجراء قديم. أما التحويلات المالية بهدف الاستثمار في لبنان فهي أصلاً معدومة منذ تخلّف الدولة عن السداد في العام 2020 وتدهور المناخ الاستثماري، مما يعني أن تلك التحويلات لن تتأثّر بإدراج لبنان على اللائحة الرمادية. وبالتالي، ونظراً إلى تلك العوامل، لن يكون هناك أي جديد على صعيد التداعيات هذه المرّة، باستثناء قطع الطريق أمام المصارف الصغيرة لكي تجد لها مصارف مراسلة كبيرة يمكن أن تتعامل معها، وفقاً لحمود.
لكنّ المشكلة اليوم لا تتعلّق بالمصارف المراسلة المتشدّدة أصلاً في إتمام التحويلات المالية منذ سنوات، بل تكمن في التعاملات التجارية، إذ إن الشركات المورّدة وشركات التأمين هي التي أصبحت متشدّدة أكثر من المصارف المراسلة، ليس بسبب اللائحة الرمادية بل نظراً إلى ارتفاع المخاطر الأمنية المحيطة بلبنان. وقد أصبحت تلك الشركات، إما ترفض التصدير أو الاستيراد من وإلى لبنان، أو تفرض شروطاً مستعصية أو عالية الكلفة.