مقارنة بين الأزمتين

 

عندما تجري الأمور بشكل جيد، يكون الجميع مسرورا والتفاؤل العام مرتفعا، ولا أحد ينظر الى الوراء أو يقيم احتمالات التعثر حتى لا نقول السقوط. هذا حصل في دول عدة أهمها في الولايات المتحدة في 2008 بعد سقوط مصرف «ليمان»، وفي منطقتنا هذا كان وضع القطاع المصرفي اللبناني في 2019 الذي ازدهر لسنوات عديدة وسقط بسرعة. كان الجميع في لبنان مسرورا بالنجاحات ولم يقيم أحد احتمالات السقوط، بل اعتقد الجميع أن السقوط وان وقع لن يكون قاسيا. في ظروف الازدهار، الجميع يرقص فرحا ومن لا يشارك في الاحتفالات يبقى معزولا ويدفع الثمن من ناحية حصته في المغانم والوجاهة والعز. الفارق الكبير بين الوضعين الأميركي واللبناني هو أن الادارة الأميركية تدخلت وخففت الأوجاع وعالجت الخسائر بينما الادارة اللبنانية كانت وما زالت غائبة حضورا وذهنيا. الفارق غير مرتبط بالقدرة المادية على مواجهة الأوضاع السيئة، بل بالقدرة الذهنية على التحضير لتخفيف المخاطر والخسائر.

في الوضع الأميركي تدخلت الادارة ماديا وتشريعيا وفي الرقابة ليس لحبها للشركات والمصارف وانما لتجنب سقوط كل الاقتصاد بكافة مؤسساته وقدراته. في لبنان الكلام كثير والعمل قليل ليس عجزا وانما لغياب الرؤية التي يجب العمل عليها لتخفيف الخسائر. في الوضع الأميركي، قال «بن برناكي» حاكم المصرف المركزي السابق اننا وصلنا الى حافة الانهيار لكن السياسات التي اعتمدت أبقتنا واقفين بصعوبة تامة. في لبنان وقع الانهيار اذ تخطينا الحافة ووقعنا لأن المواجهة لم تتم. ما زلنا نتفرج على انهيار هذا القطاع المصرفي الكبير الذي كان مضرب مثل عالمي في الانتاجية والتنافسية.

نعلم جميعا أنه لا يمكن لأي اقتصاد أن ينتعش من دون قطاع مصرفي فاعل. نعلم أن القطاع المصرفي يشكل الدورة الدموية لأي اقتصاد، وكما أن الانسان لا يعيش من دونها كذلك الاقتصاد من دون قطاع مصرفي فاعل. دور المصارف هو اقراض القطاع الخاص للاستثمار وبالتالي للنمو. الأميركيون يفهمون هذه الحقيقة وبالتالي تمت المواجهة بسرعة. في لبنان حاولنا البدء بتنفيذ الحلول بالتعاون مع صندوق النقد الدولي لكن عجز الادارة اللبنانية عن تنفيذ الشروط التي وقعت عليها مع الصندوق مدد الأزمة وعمقها الى أقصى الحدود.

ماذا فعلت الادارة الأميركية لمواجهة الأزمة التي لم تأت من لا شيء بل من العديد من الأخطاء والاهمال والتهور ومن ضعف الرقابة التي يجب أن تترافق مع أي موضوع مالي ممول من الشعب؟ قامت الادارة الأميركية بتأمين الأموال للاقتصاد لمواجهة الركود ووسعت شبكة الآمان الاجتماعية لحماية الفقراء كما أمنت دعما ماليا كبيرا عبر الموازنة. خفض المصرف المركزي الفوائد لتسهيل الاقتراض أي خفف تكلفته مما يعني زيادة السيولة المتوافرة للشركات والمواطنين. ارتفع حجم ميزانية المصرف المركزي الذي أعطى ضمانات وقروض كما اشترى أصولا لزيادة السيولة في الأسواق. كما أمم المصرف المركزي احدى أكبر شركات التأمين AIG لتجنب الكثير من الخسائر التي يمكن أن تلحق بالمواطنين.

سقطت ثقة المواطنين الأميركيين بنظامهم المصرفي ولم تعود جزئيا الا بعد ان فهم المواطنون أسباب الفشل وكيف تمت المعالجات وما الذي يمنع تكرار الكارثة. الأسئلة التي طرحها الموطنون مباشرة وعبر الاعلام هي كيف ولماذا وقعت البلاد في هذا المأزق؟ ما هي السياسات التي اعتمدت لتعديل بعض الأنظمة أو الاجراءات التي كانت سببا أو دفعت نحو الكارثة؟ من يتحمل مسؤولية خسارة 8.8 مليون مواطن لوظائفهم في وقت كان يجب أن يرتفع خلاله عدد الوظائف وشاغليها. من يتحمل مسؤولية خسارة الناتج المحلي الاجمالي 4,7% في وقت كان يجب أن ينهض خلاله وينمو. من أبشع المعاناة هي أن النهوض القوي يتبع عموما فترات السقوط، لكن النهوض الأميركي كان ضعيفا. هل أضاع الأميركيون دروس أزمة 2007 \ 2009 أم استفادوا منها لتجنب وقوع كوارث مستقبلية مشابهة. لا تشير الوقائع الى استيعاب الدروس وها هي الأزمات تقع من جديد آخر فصولها في كاليفورنيا. سارعت ادارة الرئيس بايدن الى ضمان كل الودائع منعا للسقوط الكبير.

أما في لبنان، فالثقة في القطاع المصرفي ما زالت غائبة أو معدومة في غياب الحلول ويقتصر دور الادارة اللبنانية على التفرج على ما يحدث دون أي محاولات جدية لتخفيف أوجاع المواطنين. مشكلة القطاع المصرفي اللبناني هو أنه أقرض الادارة العامة التي يعشعش فيها الفساد منذ عقود، كما أقرض قسما من القطاع الخاص الذي فشل في النهوض دون أن نهمل حصول تصرفات فسادية كبيرة. عندما لا يستطيع المقترض أو لا يريد تسديد ديونه للمصارف تحصل الكارثة وتضيع الودائع في غياب أي دور قيادي وايجابي لمصرف لبنان.

في الولايات المتحدة، تمت دراسة أزمة 2007\2009 عبر لجنة مستقلة قالت بوضوح انه كان يمكن تجنب الأزمة لولا الاهمال وغض النظر عن مخالفات مالية كبيرة. من أبرز الأخطاء هي كثافة الاقراض غير المدروس خاصة للقطاع العقاري الذي سقط. من أبرزها أيضا أخطاء وكالات التصنيف التي قيمت خطأ مؤسسات عدة وبالتالي غشت المواطنين والأسواق. لا أحد ينكر اهمال أجهزة الرقابة والتهور الاستثماري المالي والجشع الذي يسير الانسان. بنى الأميركيون قطاعا مصرفيا ضعيفا كبر من دون ركائز تحميه وتحمي المودعين.

أما في لبنان فما زلنا ننتظر تكليف لجنة مستقلة لدراسة ما حصل ومعاقبة المخالفين والمقصرين والفاسدين والمهملين. ما الأمل في حصول ذلك؟ فعلا قليل تماما كما يحصل في معالجة موضوع انفجار المرفأ الذي ما زال يؤلمنا علما أن مسؤولا قال في وقته: اعطوني 5 أيام لكشف كل شيء، وها نحن ننتظر سنوات والأمل في معرفة الحقيقة الكاملة ومعاقبة المسؤولين ضعيف جدا لكنه يبقى حيا.

Leave A Reply

Your email address will not be published.