الكرامة بين الأرقام والواقع
أي دولة تحترم نفسها تهدف الى الحفاظ على كرامة المواطن وليس فقط على دخله. فالحكومات توازي بين الناتج المحلي الاجمالي وسعادة الانسان. هل ارتفاع الناتج حتى بنسب عالية يؤشر الى ارتفاع كرامة الانسان وسعادته في العيش في مجتمعه؟. هل الحصول على فرصة عمل مع دخل مرتفع يؤثر ايجابا على كرامة الانسان وطريقة عيشه؟ ما هو دور الحكومة في هذا الايطار؟. هل دورها مادي فقط دون أي محاولة للتأثير على معنويات المواطن التي تنعكس ايجابا على انتاجيته وبالتالي على دخله وشعوره بالمساهمة الايجابية في سعادة مجتمعه؟ فالنمو مهم لكن من الخطاء جعله الهدف الأساسي لأي عمل حكومي مهما كانت الظروف. النمو مهم لكنه لا يكفي لرفع الرفاهية في المجتمع التي تحتاج الى سياسات أخرى ترفع المعنويات والشعور بالثقة. فالتركيز على نسب ارتفاع الناتج المحلي الاجمالي لوصف واقع الدولة لا يكفي بل يخلط فعلا بين الوسيلة أي الناتج من جهة والهدف وهو سعادة الانسان وشعوره الايجابي من جهة أخرى.
قال الاقتصادي «ريشارد تايلر» ان الحكومات ترتكب خطأ عندما تركز على ما هو قابل للتقييم مقارنة بما هو مهم لحياة الانسان لكن تقييمه صعبا. ما يهم اللبنانيين أولا هو سعادة وسلامة عائلاتهم ونجاح أولادهم، وما دخلهم أو ثروتهم الا وسائل للوصول الى الأهداف الحقيقية. من منا لا يعرف مواطنين أغنياء أو ذو دخل مرتفع وهم في غاية التعاسة لأسباب انسانية عائلية أو مجتمعية؟. خلال الحملة الانتخابية الرئاسية الأميركية الحالية تتسأل وسائل الاعلام خاصة الموالية للحزب الديموقراطي عن سبب عدم شعور المواطن الأميركي بالرضى تجاه سياسات الرئيس بايدن الاقتصادية بالرغم من وجود مؤشرات اقتصادية ايجابية.
تتساءل وسائل الاعلام الأميركية لماذا لا ينعكس الوضع الاقتصادي الايجابي الحالي على شعبية الرئيس بايدن والمرشحة هاريس، بل أن المواطن الأميركي غير راض عموما عن أوضاعه المادية. الجواب واضح وهو أن المؤشرات الاقتصادية الايجابية لا تكفي لارضاء المواطن في مجتمع يعاني من اضطرابات كبيرة أهم مظاهرها الجرائم التي تحصل في المدارس والجامعات والناتجة عن توافر السلاح القاتل المحمي دستوريا. كما أن المواطن غير راض عن أجواء السلم الأهلي وارتفاع نسب التطرف الديني والعرقي والمناطقي في المجتمع. المواطن الأميركي غير راض عن أوضاع الهجرة وانعكاسها السلبي على عمل الأميركي. العديد من الأميركيين العاديين يتساءلون عن أسباب تدخل دولتهم ماديا وسياسيا وأمنيا في دول ومناطق العالم في وقت يحتاج المواطن نفسه الى الكثير من العناية والرعاية والانتباه. هذه المواضيع أهم بكثير من كل المؤشرات الاقتصادية.
عندما يسعى المواطن الواعي الى ايجاد فرصة عمل له أو لأولاده، لا ينظر الى الأجر كمؤشر أول لقبول أو رفض الفرصة. فالمواطن الواعي ينظر الى أوضاع الموظفين في الشركة وهل هنالك احترام لكرامة الموظف وعمله وحقوقه. الوظيفة هي أهم بكثير وأكبر بكثير من أجر مهما كان مستواه. للأسف ينظر المواطن العادي في معظم الأحيان الى الأجر فقط، وهذا قصر نظر لا بد وأن ينعكس سلبا على أوضاعه العملية والاجتماعية عندما يتبين له اختياره الوظيفي الخاطئ.
ما هي أهداف المواطن الواعي في مجتمعه؟. هنالك مجموعة من المعايير من الأفضل أن تتوافر سوية ضمانا لكرامة المواطن. من الضروري أن يهتم المواطن بتأمين حاجات عائلته وهذا لم يعد سهلا في كل مجتمعاتنا. في لبنان مثلا، كانت الحكومات على مدى الزمن مقصرة في الحماية الاجتماعية للمواطن. مؤسسة الضمان الاجتماعي لا تعمل كما يجب لأسباب متعددة منها تقصير الدولة في التجاوب مع متطلباتها. نعلم جميعا تكلفة التأمين الصحي الخاص وهي تفوق أجور العديد من المواطنين. أما تكلفة التعليم فهي باهظة ويبشروننا بأن الأقساط ستكون أعلى في السنوات المقبلة. فالتعليم الرسمي في معظم مؤسساته لا يعجب اللبنانيين الذين يفضلون الذهاب الى التعليم الخاص. الدولة مقصِّرة أيضا في حماية التعليم الرسمي وجعله جاذبا للمواطن. أما قروض الاسكان الميسَّرة فهي غير مؤمنة لأكثرية اللبنانيين.
فالدولة في لبنان تؤثر اذا سلبا على كرامة المواطن وهذا يضعف معنوياته بل من سعيه الى تأدية واجباته تجاه الدولة. فالعلاقة بين القطاع العام والمواطن تكون في الاتجاهين أو لا تكون. أوضاع الادارة العامة في أجورها وانتاجيتها واضراباتها لا تخدم المواطن اللبناني، بل تجعله يشعر أنه مواطن من دون حقوق وهذا في غاية اللامسؤولية واللامبالاة في وقت نحتاج الى تضافر الجهود. من الضروري أن يستطيع المواطن عبر عمله أن يتدرب ويطور نفسه لأن لا فرصة عمل جيدة تبقى دائمة، وبالتالي الانتقال من وظيفة الى أخرى يتطلب تطوير الذات علميا ونفسيا وتوسيع آفاق الفكر أو تجدده لأن العالم يتغير كل دقيقة.
ما نشهده من تطور تكنولوجي يفوق اليوم قدرة الانسان العادي على متابعته واستيعابه وبالتالي عليه أن يعطي الوقت الكافي للمتابعة لمصلحته ومصلحة مستقبله. فالذكاء الاصطناعي مثلا لم يعد تخصصا بل أصبح حاجة تنعكس على كل جوانب مجتمعنا بما فيها الطب والصحة. كيف يمكن لنا أن نتجاهل هذا التطور العلمي الكبير الذي يشكل في نفس الوقت تحديا كبيرا للمواطن في عمله ودوره. فالحكومات المسؤولة في ظروفنا الحالية يجب أن تدفع المواطن الى تطوير نفسه واللحاق بالتطور التكنولوجي وبالذكاء الاصطناعي أولا.
لن يساهم اللبناني العادي في رفع شؤون دولته اذا لم تحترمه ادارة هذه الدولة. فوجود الاعلام الدولي ساهم في توعية المواطن على حقوقه وواجباته، وهو يرى ذلك عبر الاعلام والمؤتمرات والتصريحات والسياسات والحريات. اللبناني ليس أقل شأنا من غيره وبالتالي يستأهل أن تحترمه دولته ومن المؤكد أنه سيرد الجميل أضعاف ذلك وبسرعة.