أسواق العمل الحديثة
المعروف دائما أن أسواق العمل تعكس التطورات الاقتصادية العامة وتؤثر عليها في نفس الوقت. الاقتصاد العالمي يتغير وكذلك أسواق العمل مما يؤثر ليس فقط على النمو وانما أيضا على البنى الفوقية أي التعليم أولا في كل مراحله وأنواعه خصوصا التقني والجامعي. ما ندرسه اليوم في جامعاتنا يجب أن يناسب خصائص الاقتصاد العالمي ليس فقط لاستيعاب التغييرات وانما خاصة للتأثير عليه وعلى تطوره. عندما كان العالم مرتكزا على الزراعة، كان المطلوب يد عاملة تفهم بالأرض، لكن عندما أصبحت الصناعة هي أساس الاقتصاد لعالمي تغير كل شيء ليس فقط في خصائص الاقتصادات الوطنية وانما في التعليم والتدريب حيث أصبح الاختلاف كليا مقارنة بالاقتصاد الزراعي.
تحول الاقتصاد العالمي من زراعي الى صناعي لم يقتصر على الانتاج والنمو وانما ساهم في خلق ما عرف بالعالم المعاصر المبني على الديموقراطية والحريات. لم يكن الانتقال سهلا للشعوب لأن العالم الجديد ارتكز على الانفتاح أو ما سمي لاحقا بالعولمة كما على التشغيل الآلي مما سبب التغيير الكبير والسريع الذي لم يستوعبه الجميع. يقول الاقتصاديان «أورورك» و«ويليامسون» أن العالم الجديد بدأ في سنة 1820 حيث أحدثت التغييرات ثورة في الاقتصاد أي عندما أصبحت أسعار السلع محددة ليس محليا وانما دوليا. أما العولمة فتأثيرها كان حول طريقة دفع النمو الاقتصادي عبر التجديد المؤثر على عوامل الانتاج الثلاثة أي الانساني والمادي كما عامل المعرفة المهم جدا.
في كل التحولات والثورات الاقتصادية هنالك دائما أوجاع بسبب ضرورة التأقلم، وأرباح تأتي نتجة تأثير التغيير على الاقتصاد. من الأوجاع انتقال العمالة من الزراعة الى الصناعة وهذا ليس سهلا لأن عوامل وطرق الانتاج مختلفة. من الأوجاع انتقال السكان من المزارع الى المدن وهذا مهم أي تغيير كبير في طريقة الحياة. أما النوعية الثالثة من الأوجاع فكانت ارتفاع فجوة الدخل والثروات بين السكان بسبب انتقال الاقتصاد من الزراعة الى الارتكاز على الصناعة. حصة الـ 5% الأغياء من الدخل الوطني البريطاني ارتفعت من 35% الى 40% في فترة 1759\1867. لكن الفجوة ضاقت بدأ من القرن الماضي مع ازدهار الصناعة حيث أن حصة الـ 5% الأغنياء من الدخل الوطني انخفضت من 40% الى 20% في بداية السبعينات. رابعا أتى التغيير من انتقال مصادر الانتاج من الأرض الى رأس المال. لكل من هذه الأوجاع فوائدها الاقتصادية والاجتماعية والانسانية التي لم تكن واضحة سابقا لكنها أصبحت مفهومة جدا اليوم.
حقبة سيطرة الصناعة على الاقتصاد العالمي كانت مفيدة للنمو لكن التطور العلمي غير طرق الانتاج عبر ادخال التكنولوجيا الحديثة التي سهلت تطور الخدمات ونقلت القرار الاقتصادي من المعمل الى المكتب. كما تطورت المدن وأصبح الاتصال أسهل بفضل تطور قطاعي الاتصالات والنقل. لم يقتصر التطور التكنولوجي على النقل والاتصالات بل تطور ليشمل القطاعات الرقمية والمشفرة. هذا ساهم أيضا في تسريع انتقال الاقتصاد العالمي الى درجات أكثر تطورا وسرعة. التطور الرقمي هو السبب الأساسي لافلاس نصف الشركات الكبرى في الأسواق المالية. من لا يتابع ويطبق التطورات يخسر بل يزول من الأسواق التنافسية الصعبة. لم يؤثر الاقتصاد الرقمي على أوضاع الشركات فقط بل غير كليا أسواق العمل وشروطها.
لكل تغيير اقتصادي مستفيدين وضحايا، وهنا تكمن أهمية التحضير للتحولات القادمة. هنالك قواعد جديدة للأسواق موجعة كثيرا لمن لا يقبلها. من القواعد القديمة التي كانت مفيدة قبل الاقتصاد الرقمي ولم تعد كذلك هي مثلا تشجيع الشباب والشابات أكثر على التدريب والتعليم واكتساب كل الخبرات الممكنة. كانت القواعد مفيدة للقطاعات التي استفادت من العولمة والتشغيل الآلي وليس لكل القطاعات. فالمواطن الذي يكتسب الخبرة والتعليم يستطيع الحصول على فرصة عمل جيدة في قطاع الخدمات، أما الذي ليس له هذه المؤهلات يبقى في الصناعة أو حتى في الزراعة اذا شاء. فالتعليم العالي كان الوسيلة للحصول على فرصة عمل جيدة في قطاع الخدمات. هذا لم يعد صحيحا اليوم اذ أن الاقتصاد الرقمي غير القواعد مما يؤثر سلبا على العاملين في قطاع الخدمات أي عموما ثلاثة أرباع اليد العاملة الوطنية.
من هنا لا بد للمرشحين للدخول الى أسواق العمل من أن ينتبهوا الى أمور عديدة. يجب أن يتجنبوا الدخول الى الأسوق التي تدخل فيها التكنولوجيا الحديثة بقوة. تجنبوا القطاعات التي تتكل أكثر فأكثر على الذكاء الاصطناعي كما على الخدمات عن بعد. منافستهما صعبة والربح فيهما غير مؤكد بل متعب حتى لو حصل. يجب على طالبي العمل التوجه الى القطاعات التي تتطلب الاجتماع في غرف مغلقة حيث الاجتماع وجها لوجه لا مفر منه. فالخدمات التي يمكن أن تحل عبر الاتصالات ستكون كذلك وربما تكلف أقل وأحيانا تعطي نتيجة أفضل تبعا لنوعية وأهلية الشخص الأخر. تجنبوا الأعمال التي لا تفرض تواجد الطرفين في نفس الغرفة لأن المنافسة عبر الأنترنت قوية وغير عادلة. المطلوب من طالبي العمل تعلم تقنيات التواصل الانساني المباشر التي يفشل فيها الحاسوب والانسان الآلي اللذان يجمعان معلومات لا يمكن للانسان العادي أن يحصل عليها. تطور الانسان وطالبي العمل تحديدا مع التغييرات التكنولوجية ضروري جدا.
هل يأتي التطور التكنولوجي دائما لمصلحة الانسان؟ ليس بالضرورة علما أن من يطور التكنولوجيا هو الانسان نفسه. لم يعد هنالك حدود للتطور التكنولوجي حتى لو بدأ جديا بأخذ مكان الانسان في خدمات كانت بعيدة عنه في الماضي. فالخدمات الطبية والصحية والاقتصادية والقانونية أصبحت متطورة عبر العالم الرقمي. أما دور المواطن العادي فيكمن في التأقلم مع المتغيرات وليس مقاومتها. أصبح العالم الحالي أصعب وأخطر والوعي مطلوب من الجميع.