طرابلس أمام امتحان استثمار إنجاز الجيش «تحرير طرابلس» من محتلّيها

 

كسرَ الجيشُ اللبناني في طرابلس الدائرةَ المفرغةَ التي فرضها التخاذلُ السياسيّ والبلدي عن اتخاذ القرار بإزالة المخالفات وفاجأ الجميعَ بالمبادرة إلى تحرير الأملاك العامة والبلدية والوقفية من محتلّيها، فجرفَ سطحَ نهر أبو علي وطهّر شارع «سوق الأحد» ودخل الأسواق القديمة وصولاً إلى أبي سمراء حيث أزال الأكشاك المخالِفة والتعدّيات القائمة منذ سنوات الأمر الذي ترك ارتياحاً واسعاً لدى المواطنين بينما كان معظم النواب في موقف المتفرِّج وحاول بعضهم، ممن اعتاد حماية الزعران، تخفيف زخم حملة الجيش والتدخّل لصالح بعض المحتلين من دون جدوى، لكنّ هذا الإنجاز الذي يعتبر تاريخياً بالنظر إلى حجم التغوّل الذي شهدته طرابلس على أملاكها العامة والخاصة، لا يمكن المحافظة عليه إلّا إذا سارعت البلدية مدعومة من النواب والقوى السياسية الساعية لاستنهاض المدينة، إلى وضع خطة عاجلة لتأهيل «المناطق المحرَّرة» تمنع عودة سيطرة الشبيحة عليها من جديد.

عاشت طرابلس دوّامة متواصلة من لعبة «القطّ والفأر» بين القوى الأمنية والزعران مفتعلي الإشكالات، الذين يقومون بإطلاق النار وافتعال الشغب، ثم يتدخّل سياسيون يحمون الزعران والقتلة ليطلقوا سراحهم، وهم يتقاسمون الأرصفة والشوارع في الاستيلاء على الأملاك العامة حيث البسطات والأكشاك والخيم وما فيها من ممنوعات ومحظورات تحوّلت إلى مصادر تمويل لمجموعات الزعران.. ورغم المطالبات المتواصلة من قيادة الجيش في المدينة للنواب ووزارة الداخلية والمحافظ وبلدية طرابلس بضرورة اتخاذ القرارات التي تسمح بتطهير المدينة من كلّ هذه الارتكابات.. إلّا أنّ الجميع بقي في موقع التردّد إلى أن تفاقمت الإشكالات في حارة البرانية وجوارها وصولاً إلى محيط سقف نهر أبو علي، فكان لا بُدَّ من حسم الموقف سريعاً بإزالة هذه البؤر وهكذا كان بالفعل.

وللأمانة وحتى لا نقع في خطأ التعميم، فإنّ النائب إيهاب مطر كان منذ أكثر من سنة يبذل جهوداً مضنية مع رئيس الحكومة نجيب ميقاتي ووزير الداخلية بسام مولوي ومع زملائه النواب للوصول إلى إعادة تنظيم الوضع في طرابلس، وخاصة إزالة المخالفات والتعدّيات، وقد لاقى تجاوباً من النائب أشرف ريفي والنائب السابق رامي فنج، لكنّ هذه الجهود اصطدمت بإشكاليات كثيرة، منها الجمود في العمل البلدي وبرود مواقع القرار الحكومية.

جاءت خطوة الجيش وبدفع مباشر من رئيس فرع مخابرات الشمال العميد نزيه البقاعي من منطلق الرؤية الشاملة التي يحملها للمدينة، فهو يرفض أن يكون التعامل مع الخروقات الأمنية والأزمات الاجتماعية أمنياً وعسكرياً فقط، بل إنّ المعالجة ينبغي أن تكون تنموية اجتماعية تربوية وثقافية ودينية بمعنى أن تقوم المرجعيات بدورها في تفعيل المنظومة الأخلاقية فالوازع الديني والأخلاقي هو أحد أعمدة الأمن الاجتماعي، والموقف الديني من الآفات الاجتماعية مثل المخدرات والسرقة وغيرها، عاملٌ فاعل في ضبط الانفلات وحماية الأجيال من هذه المخاطر.

كانت خطوة الجيش ضرورية لكسر الحلقة المفرغة على المستوى الأمني، خاصة أنّ التوقيفات لمطلقي النار ومفتعلي الشغب لم تعد مجدية، فهناك أغطية سياسية تعيدهم إلى أماكنهم وتسمح لهم بتكرار جرائمهم، لذلك، كان المطلوب نقل الوضع في طرابلس إلى مربع جديد يسمح بتحريك عامل التنمية في المناطق الشعبية، وذلك بإفساح المجال للبلدية والمجتمع المحلي للتحرّك من أجل تقديم المبادرات المطلوبة لتأهيل المساحات المحرّرة.

قام العميد البقاعي بجولة واتصالات على جميع المعنيين وطالبهم بضرورة التحرّك لملء الفراغات الحاصلة بعد إزالة المخالفات بمبادرات تنموية عاجلة وبسرعة تنظيم قطاع البسطات والأكشاك، لأنّ إزالة المخالفات وحدها لا تحلّ المشكلة في المدينة، كما أنّ تقديم نموذج ناجح في تأهيل بعض الأماكن المحرَّرة من شأنه أن يساعد الجيش في استكمال حملته لإزالة المخالفات في بقية المناطق، ولتشجيع المبادرات التنموية الإيجابية المحاطة بالحماية الأمنية والاجتماعية لنشر المزيد من الاستقرار في المدينة وإنهاء حالة الفوضى.

كشفت خطوة الجيش جملة حقائق أهمها أنّ كلّ ما يُحكى عن استحالة تطبيق القانون في طرابلس ليس إلّا أوهاماً اصطنعها البعض لمصالحه في إبقاء الأمور على حالها من الفوضى والتشبيح، خاصة مع بروز بعض النواب المعروفين بولوغهم في حماية الزعران للمطالبة بوقف إزالة التعدّيات بذريعة أنّ الأشخاص الذين احتلوا الأملاك العامة «يستررزقون» منها، بينما الحقيقة أنّ أغلب هذا «الارتزاق» تحوّل إلى تجارة محرمة للمخدِّرات وتمويلاً لأعمال التشبيح في معظمه، خاصة مع تفاقم وتسوع الاستيلاء على المساحات العامة حتى باتت تقتحم مداخل المحلات الشرعية التي يدفع أصحابها الإيجارات والرسوم، ثم يتعرضون لمنافسة غير عادلة من أصحاب البسطات.

لم تنتهِ مشكلة التعدّيات والمخالفات في طرابلس، بل تحتاج إلى استكمال في بقية مناطق المدينة من دون استثناء، لكنّ هناك ضرورة لحسن استثمار هذا الإنجاز الآن، من خلال عملية تأهيل حضارية تنموية للمساحات التي جرى تحريرها من محتليها، وخاصة سقف النهر ومكان سوق الأحد بعد إزالته، فإذا لم تقم البلدية بملء هذه المساحات فهي ستكون معرّضة للاحتلال وإعادة الفوضى من جديد، ومن الطبيعي مع هذا التطور أن تكون الجمعيات التي عملت على تأهيل وتجميل شوارع طرابلس مدعوّة للتحرّك والعمل في هذه المنطقة الشعبية العريقة المحاطة بالآثار والمليئة بفرص الاستثمار إذا تحسّنت ظروف البيئة المحيطة، كما حصل جزئياً في سوق حراج وغيره، فهي منطقة مؤهلة لتكون أفضل من كل ما يجري التسويق له في جبيل والبترون وغيرهما، لأنّ الثروة الأثرية لطرابلس تجعلها متحفاً حياً متفاعلاً، فهي المدينة المملوكية الثانية في الشرق بعد القاهرة.

من واجب البلدية تنظيم قطاع البسطات والأكشاك وسوق الأحد وتحويلها إلى استثماري حضاري تنموي وذلك بالتشاور مع النواب والنقابات وغرفة التجارة والصناعة والزراعة والجمعيات والمجتمع الأهلي والاستعانة بالخبرات والاستشارات المتاحة، فالقاعدة الناجحة في التنمية تقوم على التشاور بين مواقع القرار والمجتمع المحلي، ولا يجب تضييع فرصة إعادة التئام المجلس البلدي فطرابلس تحتاج إلى وضع قائمة أولويات عليها إجماع أو شبه إجماع مع إبعاد الخلافات عن المجلس، فالواجبات ثقيلة والتراكمات كبيرة جداً، والفرصُ في المقابل متاحة ومن الإجرام بحقّ طرابلس وأهلها تضييعها.

Leave A Reply

Your email address will not be published.