أي سعر صرف نعتمد؟

 

من أهم القرارات التي تتخذ في الدول هي سياسة سعر صرف النقد الوطني تجاه العملات الصعبة وخاصة الدولار. قوة أي نقد تنبع من قوة الاقتصاد وبالتالي تحريكه بشكل اصطناعي لا يفيد، بل يمكن أن يخلق مشاكل واسعة في العلاقات الدولية. هنالك علاقة قوية بين سعر صرف النقد من جهة وكل جوانب الاقتصاد من جهة أخرى، خاصة النمو والبطالة والتضخم كما ميزان المدفوعات. يقول صندوق النقد أن هنالك 8 أنظمة لسعر صرف النقد يمكن اختيار واحد منها أي بين الجامد كليا والحر كليا.

معظم الدول يختار نظام سعر صرف يقع ضمن المجموعة وليس في أطرافها. أي نظام نختار؟ يقول «أوغستان كارستنز» حاكم المصرف المركزي المكسيكي السابق أن الاختيار يعتمد على عاملين. أولهما مدى دينامكية السياسات الاقتصادية العامة وماذا تغطي في الاقتصاد. ثانيا، ما هو تأثير القرار على علاقات الدولة الاقتصادية العالمية. سعر الصرف يحدد الى حد بعيد قيمة العلاقات التجارية بين دولة والعالم. لا شيء يمنع من تغيير سياسة سعر الصرف، فهي ليست أبدية اذ تعتمد السياسة التي تفيد الاقتصاد. فالمكسيك مثلا انتقلت في تسعينات القرن الماضي من سعر الصرف الثابت الى الحر. ما يجب التنبه له في علاقات دول تعتمد جميعها سعر الصرف الحر هو عدم وقوعها في حروب نقدية أي أن تقوم دولة ما بتخفيض سعر الصرف لتشجيع صادراتها. فتقوم الدول الأخرى بنفس الخطوة وتحصل عندها حرب الى الأسفل تتعب الجميع.

فائدة سعر الصرف الحر الأساسية هي استيعابه لكل ما يحدث في الاقتصاد عبر تحركه. يتغير الطلب على النقد كما العرض وبالتالي يتحرك سعر الصرف. أما في نظام سعر الصرف الثابت، تنعكس التغيرات الداخلية والخارجية على أمور أخرى مهمة كالبطالة والتضخم وغيرها، وبالتالي يمكن أن تكون التأثيرات مكلفة أكثر. في اعتقادنا، سعر الصرف الحر ضمن ضوابط أي كما يجري بين الدولار واليورو هو أقل تكلفة على الاقتصاد ومفيد أكثر للنمو وله فاعلية أعلى. لماذا اذا تختار بعض الدول سعر الصرف الثابت؟ ربما خوفا من تغيراته التي تنعكس على العلاقات الدولية أو ربما لأنها تملك القدرة المادية للدفاع عنه ومواجهة الخضات. هذا هو حال دول مجلس التعاون الخليجي.

في أزمة 2008\2009 العالمية، استطاعت الدول التي اعتمدت سعر الصرف الحر حماية نفسها بشكل أفضل كبريطانيا وليرتها. ايسلاندا نجحت في استيعاب الأزمة بينما لم تستطع ايرلندا ذلك. الفارق هو أن ايسلاندا كانت تعتمد سياسة سعر الصرف الحر على عكس ايرلندا. نفس الشيء حصل للدول التي دخلت في وحدات نقدية كاليورو، فكان تأثير الأزمة أكبر بكثير مع اليونان واسبانيا والبرتغال التي لم تحتوي اقتصاداتها على درجة مناعة مرتفعة مقارنة بالمانيا وفرنسا ضمن نفس الوحدة.

كتب الاقتصادي الكبير «هاري جونسون» الذي أمضى حياته يدرس أسعار الصرف ان سعر الصرف الحر يبقى الأفضل خاصة اذا اعتمدت الدول سياسات اقتصادية مستقلة مع علاقات تجارية ومالية خارجية حرة. كما قال «ونستون تشرشل» بشأن النظام الاقتصادي الحر أنه الأقل سؤا وليس مثاليا. كذلك نظام سعر الصرف الحر هو الأفضل عموما وليس مثاليا. يمكن تحسين هذا النظام عبر علاقات دولية أوسع ترتكز على التعاون لمواجهة المشاكل المشتركة. تحالف الدول السبعة الكبرى G7 يصب في هذا الايطار بالرغم من أن الولايات المتحدة تقوده دون أي اعتراضات تذكر.

أما سياسات سعر الصرف الثابت فهي تشجع على المضاربة لتحريك السعر وجني الأرباح، وهذا ما حصل في الأزمات النقدية السابقة. تغيير السعر قسريا يفقد الدول المصداقية التي يجب أن تكون لها في علاقاتها الداخلية والدولية. اذا كان غير ممكنا اعتماد سعر صرف حر خوفا أو لأن الاقتصاد غير جاهز له، فيمكن اعطاء بعض المرونة لسعر الصرف الثابت بحيث لا ينكسر بدرجات كبيرة ويضر بالجميع خاصة أصحاب الأجور والفقراء.

في الوضع اللبناني اعتمد المصرف المركزي لسنوات طويلة سياسة سعر الصرف الثابت لليرة تجاه الدولار مع بعض المرونة. استمرت السياسة لسنوات وكانت لها تأثيرات كبيرة في دعم الاستقرار الداخلي. لكن سياسات الدعم المغلوطة والأوضاع المتعثرة في المنطقة ساهمت كلها في انفجار سعر الصرف وسقوط الليرة. خسر لبنان ثلثي الناتج المحلي وأنحدر الدخل الفردي الى مستويات لم يعرفها من قبل. لو اعتمد لبنان سياسة سعر الصرف الحر لكان السعر انحدر حتما لكن بوتيرة أقل خطورة، وليس بانحدار قاس وسريع وكبير كما حصل منذ 2019. سياسات الدعم غير المنطقية كلفت لبنان الكثير في احتياطه النقدي. تكمن مشكلة لبنان خاصة في سؤ ادارة الدولة من قبل معظم المسؤولين على مدى عقود طويلة. يملك لبنان 9,2 مليون أونصة من الذهب، ويقضي المنطق بأن يتصرف لبنان بجزء منها لتحفيز الاقتصاد ودعم نموه. الا أن الفساد الموجود في كافة أنحاء القطاع العام اللبناني يمنع علينا تأييد هذا الاقتراح اليوم، وليبقى الذهب ذهبا الى ما شاء الله.

هنالك اقتصاد آخر لا بد من ذكره. فالادارة الصينية جدية جدا والتكنولوجيا المعتمدة من الأفضل عالميا. لا ترغب الصين في أن يكون نقدها عالمي بالرغم من نموها البالغ 5,3% بين الفصلين الأول من 2023 والأول من 2024 على عكس التوقعات. سياسة سعر الصرف الحالية تتوجه بخطى ثابتة نحو الحرية وبالتالي تخفيف تدخل المصرف المركزي لحمايته. ارتفاع الأجور وتوجه المجتمع أكثر الى الاستهلاك سيضعان الاقتصاد الصيني في موقع تنافسي أكثر وأخطر. تنفتح الصين أكثر فأكثر على العالم وأصبحت تستورد أكثر من السابق أي تنتقل عمليا من نموذج كبير وفريد الى أوضاع تشبه دول أخرى في قارات أخرى.

Leave A Reply

Your email address will not be published.