البنك الدولي ووزارة التربية: خفض كلفة التعليم بإفقار المعلّمين!
بدل ردّ الاعتبار للمعلمين في الملاك وتثبيت المستحقّين من المتعاقدين وتدريبهم خارج نظام المحاصصة والمحسوبيات، تسعى دراسة تحليلية أعدّها البنك الدولي وفريق من وزارة التربية إلى إعادة تموضع اجتماعي للمعلمين ضمن خانة الفقراء، بحيث لا يتعدى متوسط الدخل اليومي للمعلم الـ 8 إلى 11 دولاراً، في ظل نظام حماية اجتماعية وصحية غير فعّال: فلا تغطية صحية كافية، ولا تعويضات نهاية خدمة ولا برنامج دعم للسكن. بل إن الدراسة تدعو، بصورة غير مباشرة، معلمي الملاك إلى ترك المهنة، إذ تخيّرهم بين التعاقد بـ 250 دولاراً شهرياً مقابل 7 ساعات تعليم تتيح لهم التعاقد مع مدارس خاصة ومضاعفة دخلهم، والبقاء في الملاك والحصول على 327 دولاراً مقابل التدريس 24 ساعة في الأسبوع. وقد «أبدع» فريق الدراسة، المُعدّة للترويج لإنجازات وهمية ومصالح القطاع الخاص، في خفض الإنفاق في الوزارة بأكثر من 18 مليون دولار، لكنه أغفل الآثار الاجتماعية والاقتصادية والبطالة المقنّعة التي سترفع أعداد العاطلين عن العمل من خيرة كادرات القطاع التعليمي المؤهّلة، بعدما نقلتهم الوزارة والبنك الدولي إلى فئة الفقراء عمداً مع تغييب الاستدامة في العمل والعيش اللائق.
وكان البنك الدولي نشر، في حزيران الماضي، الملخّص التنفيذي للدراسة حول مدى الاستفادة من المعلمين في لبنان وتحديد السبل المحتملة لتحسين كفاءة استخدام الموارد في التعليم الرسمي. واستندت الدراسة إلى بيانات الدوام الصباحي من نظام إدارة المعلومات في المدارس SIMS للعام الدراسي 2022 – 2023. واعتمدت على أرقام البيانات فحسب، من دون تحليل الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تلعب دوراً كبيراً في الخلل الحاصل، ونظام المحاصصة والتعيينات واستدامة العمل للمعلمين ومستقبل التعليم والعمل في القطاع في ظل تشتت النظام التعليمي والسياسي.
العرض أتى كمحاولة لعلاج موضعي محدود لا يقدّم حلاً مستداماً، بل يسهم في تفاقم الأزمة الاجتماعية لأساتذة الملاك والمتعاقدين على السواء، إذ يقترح زيادة ساعات التدريس من دون تقديمات أو تحسين وضعهم الاجتماعي، ما ينعكس حكماً على جودة التعليم وحافزية الأساتذة للاستمرار، ويصرف ما لا يقلّ عن 4 آلاف متعاقد من التعليم فيما يتقاعد سنوياً أكثر من 800 من ملاك التعليم.
نتائج الدراسة يشوبها خلل في قراءة الأرقام. فرغم أن الفارق قليل في نسبة المعلمين إلى التلامذة بين لبنان (1/13 في الصفوف الابتدائية و1/5.9 في المرحلة الثانوية)، مقارنة بالمتوسط في منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (1/15 للابتدائي و1/13 للثانوي)، شهدنا تراجعاً كبيراً في التحاق التلامذة بالمدارس الرسمية بين عامي 2019-2020 و 2022-2023 (موضوع الدراسة)، من 340 ألف تلميذ إلى 302 ألف، منهم 10 آلاف في الثانوي، وتناقصت الشعب من 16933 إلى 16208 أي 725 شعبة منها 191 في الثانوي. وحكماً سيتقلّص عدد التلامذة في كل شعبة وسيجري دمج شعب أخرى، لكنّ الخلل الأهم في الدراسة أنها اعتمدت على أساس سنة مدرسية واحدة (2022-2023) للوصول إلى استنتاجات وتوصيات أحادية البعد، من دون أي اعتبار للسياق الزمني العام لمسار التعليم في السنوات الأخيرة وتداعيات الأزمة الاقتصادية.
هذه القراءة تشكل تهديداً للنظام التعليمي الرسمي وتكرّس نموذجاً لاجتراح حلول آنية لخفض موازنة التعليم من دون النظر إلى مستقبله والخصوصيات الديموغرافية والثقافية والسياسية لكل منطقة، إذ لا يمكن إصدار توصيات عامة وشاملة بقرار فوقي من دون دراسة الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والسكانية والثقافية للمناطق المختلفة. ففي عكار والشمال مثلاً، يجب مضاعفة أعداد المعلمين كون أكثر من نصف سكان المحافظتين فقراء، ونصف الملتحقين بالتعليم ينتسبون إلى المدرسة الرسمية على عكس جبل لبنان مثلاً. كما أن نسبة المعلمين/التلاميذ في الشمال (1/14.5) قريبة جداً من المتوسط العالمي، فيما هي الأدنى في جبل لبنان (1/9.8). ويعود تدني النسبة في الثانوي إلى أمرين، الأول نسب التسرب العالية أو ترك الدراسة في المرحلة المتوسطة والالتحاق بالتدريب المهني بسبب الأوضاع الاقتصادية، والثاني بسبب تزعزع الثقة بالتعليم الرسمي في الصفوف الانتقالية واللجوء إلى الخاص.
أغفلت الدراسة الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية للنظام التعليمي
وفي نظرة إلى دليل المدارس 2019-2020، نلاحظ أن لدى عدد غير قليل من المدارس الرسمية الصغيرة والكبيرة أعداداً من المعلمين في الملاك والتعاقد الملحقين بالإدارة بما يتجاوز الحد المقبول (14 إدارياً / 588 تلميذاً، 8 إداريين/358 تلميذاً، 11 إدارياً/292 تلميذاً)، فيما تعاني مدارس أخرى نقصاً وتستعين بالملاك لملء الفراغ الإداري. ويعود ذلك إلى التعيينات والتشكيلات التحاصصية والواسطة، أي البعد السياسي المرتبط بالحوكمة والإدارة العامة، أما خيار إعادة الفائض في الإدارة التعليمية إلى التعليم فيدل على ثغرة تنظيمية في الهيكلية العامة للوزارة أشار إليها البنك الدولي على موقعه.
وتشمل خارطة الطريق ثلاث مجموعات من الإصلاحات: إصلاحات في عملية التعليم والتعلم والاندماج (Inclusion)، الحوكمة/ الإصلاحات العملية، وإصلاحات أساسية لتعزيز الكفاءة وتوفير التكاليف. المسارات الثلاثة التي أشار إليها البنك الدولي لا يمكن فصل بعضها عن بعض. والمباشرة بنشر دراسة تحليلية لتعزيز الكفاءة وتوفير التكاليف تدل على قصر نظر، إذ كان يجب البدء بوضع رؤية شاملة ومستدامة للإصلاحات تهدف إلى إنقاذ القطاع. فالتعليم متعدد الأبعاد، والتوصيات التي وصلت إليها الدراسة موضعية، أما الأخذ بها فيهدد النظام التعليمي المبني على الملاك الوظيفي وليس على المتعاقدين، وعلى نظام حماية اجتماعية فعال ومستدام. ولا يمكن الاعتماد على الوفر المالي الذي تحققه النتائج باعتماد تعويضات تكرّس إفقار المعلمين والأساتذة في الملاك والتعاقد وتنقلهم من فئتهم الاجتماعية إلى فئة الفقراء.
وتظهر الدراسة خبثاً لا مثيل له في التعامل مع الحقوق الأساسية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وحق العمل والاستدامة والعيش اللائق. فقد ورد فيها المقطع الآتي: «ستتمكن وزارة التربية من الاستفادة من نسبة التقاعد المرتفعة للمعلمين وتركهم للمهنة، وضبط حجم قوة العمل في قطاع التعليم العام من دون الحاجة إلى تقليص عدد المعلمين الحاليين. ببساطة، من خلال تطبيق السياسات الحالية – اي ضمان تطابق ساعات التدريس للمعلمين في الملاك مع نصابهم، وأن يتم التعاقد مع المعلمين خارج الملاك (المتعاقدين) فقط وفقاً للحد الأدنى لعدد ساعات التدريس الأسبوعية (7 ساعات للابتدائي، 5 ساعات للثانوي). ويمكن وزارة التربية أن توفر ما يصل إلى 18.7 مليون دولار سنوياً، بناءً على معدلات التعويضات لعام 2023. وهذا يعادل تقريباً 6% من إجمالي ميزانية الوزارة عام 2023 (بما في ذلك سلفة الخزينة البالغة 150 مليون دولار)».
ولكن، ما هي التعويضات التي تُدفع للمعلمين والتي بنت الدراسة عليها أرقامها؟ تبلغ تعويضات 2023 للمعلمين في الملاك ما يلي: راتب شهري قدره 152 دولاراً (12 شهراً في السنة)، وبدل إنتاجية شهري قدره 300 دولار (7 أشهر في السنة) وبدل نقل أسبوعي يصل إلى 12 دولاراً (9 أشهر في السنة). بالنسبة إلى المعلمين المتعاقدين، يبلغ أجر الساعة 3 دولارات، إضافة إلى بدل الإنتاجية الشهري البالغ 300 دولار، ويصل بدل النقل الأسبوعي إلى 12 دولاراً (7 أشهر في السنة). بمعنى آخر ستكون تعويضات المعلمين في الملاك 327 دولاراً في الشهر إضافة إلى 384 دولاراً للنقل سنوياً، وتُحسم من أساس الراتب الضرائب واشتراكات التعاونية. أما المتعاقدون فيحصلون على 250 دولاراً شهرياً مع بدلات نقل سنوية تبلغ 384 دولاراً، تُدفع منها الضرائب والاشتراكات. بدلات النقل لا تدخل ضمن إنفاق العائلة وسيكتفي المعلم بمتوسط دخل شهري صاف يبلغ أقل من 300 دولار للملاك لنصاب كامل، وأقل من 250 دولاراً للمتعاقدين بنصاب 7 ساعات. بذلك تسقط الدراسة منظومة الحقوق والحماية الاجتماعية وتعويضات نهاية الخدمة ولا تستثمر الوفر المتوقّع لتحسين أوضاع المعلمين وتثبيت المتعاقدين المستحقين، لتكون النتيجة قصوراً في الرؤية وأهداف الإصلاحات المنشودة واستدامة العمل وديمومته.
* باحث في التربية والفنون