إلى المنتزهات الجيولوجيّة دُرّ
ها هو لبنان يقترب من الدخول إلى لوائح اليونيسكو الجيولوجيّة بمنتزهات ثلاثة، إلى جانب 48 دولة تحتضن 213 حديقة جيولوجية. ضجَّت المواقع الإخبارية اللبنانية بإعلان وزير البيئة عن الإنجاز الكبير، من دون أي شرح للتفاصيل. إشتعلت بنا الحماسة، فرحنا نبحث عن إبرة الإعلان في كومة مشاريع الوزارة.
أعلن وزير البيئة الدكتور ناصر ياسين عن البدء بمسار وورشة عمل لإنشاء أول منتزه جيولوجي «جيوبارك» في لبنان، في منطقة جبيل، لتقديمه رسميّاً لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة – اليونسكو، وإعلانه ضمن الشبكة العالميّة للمنتزهات الجيولوجيّة. وأوضح أن هذا المنتزه الجيولوجي سيكون مضافاً الى اثنين آخرين في منطقتَي الشوف وجزين. لكنه الأول من نوعه في لبنان. ثم ختم أن «هذه المنتزهات الجيولوجيّة هي مناطق جغرافية غنيّة بالإرث الجيولوجي، تتم إدارتها بمفهوم شامل للحماية ورفع الوعي حول إرثها الإنساني والطبيعي».
توجّهنا الى «معاليه» نلتمس بعض الإضافات، لكننا لم نوفّق بالحديث معه. دخلنا مكاتب الوزارة من أبوابها الرسميّة، ولم نفلح أيضاً باقتناص جواب واحد. حتى المدير العام يجهل تفاصيل المشروع. حاولنا الاستعانة بـ google، لكن الأخير كان يأخذنا كلّ مرّة الى إعلان الوزير ذاته بألوان تختلف بحسب اختلاف المواقع، وبحقيقة واحدة، هي: تسجيل نقاط غير مستحقّة. حتى رؤساء بعض البلديات المعنيّة في قضاء جبيل، لا علم لهم بالموضوع.
حقيقة المشروع
قبل إعلان وزير البيئة بإحدى عشرة سنة، وتحديداً في أيلول 2013، أطلقت كليّة السياحة وإدارة الفنادق في الجامعة اللبنانية مشروع هيلاند (HELAND project)، هدفه: «التطوير الاقتصادي الاجتماعي المستدام من خلال طرائق تقنيّة متطوّرة تعمل على حفظ الإرث السياحي والطبيعي في منطقة حوض البحر المتوسط». زار فريق «هيلاند» عشر مناطق طبيعيّة في لبنان، لدراسة مؤهلات كلّ موقع على حدة ليكون مشروعاً سياحياً.
إحدى هذه الزيارات كانت الى محميّة أرز الشوف، حيث اطّلع الفريق على معلومات تتعلّق بإدارة المحميّة، كما ناقش مع المسؤولين فيها أفكاراً ومشاريعَ مستقبلية، وما لبثوا أن توصلوا الى اتفاق، بالتعاون مع البلديات والقطاع الخاص والمحمية، من أجل تأسيس حديقة جيولوجيّة في منطقة نيحا، على أن تصبح الحديقة الأولى في لبنان والشرق الأوسط بعد إعلان اليونيسكو عنها.
وفي شهر آب 2021، أعلنت بلدية جزين – عين مجدلين على صفحتها الإلكترونية عن اجتماع تحضيري لمشروع «حماية التنوع البيولوجي والنُّظم البيئية من خلال إدارة وحوكمة المواقع ذات الأهميّة البيئيّة والتشجيع على إقامة محميات طبيعيّة»، ضمّ أخصائيين من محمية أرز الشوف ورؤساء بلديات وممثلين عن تعاونيات زراعية عاملة في المنطقة. وختمت أن «هدف الاجتماع إنشاء Geopark لمنطقتيّ الشوف وجزين نظراً للتنوع الجيولوجي الغني والطبيعة المميّزة».
وفي حديث لـ»نداء الوطن»، لفت رئيس اتحاد بلديات جزين خليل حرفوش الى أن العمل على إنشاء مناطق ذات طابع خاص، وشروط محددة، قد انطلق فعلاً منذ سنوات، والهدف الدائم هو حماية هذه الثروات الطبيعيّة وحسن إدارتها بشكل يستفيد منه أهالي المنطقة والسياح وطلاب المعاهد والجامعات، والعلماء في أبحاثهم وكل من يساعد على إغناء العلوم والمعارف.
وأضاف، انهم صنّفوا هذه المناطق المحميّة تحت مسميين، منتزه طبيعي، شبَّهه حرفوش بمنتزهات جنوب فرنسا، حيث يمكن ممارسة النشاطات اليومية الترفيهيّة فيها ضمن شروط خاصة، فهي تستقطب السياح وتساهم في إنعاش الاقتصاد المحلي، في إطار تنظيمي خاص عماده حسن الحوكمة والإدارة. ومنتزه جيولوجي، عبارة عن موقع محمي بالكامل، كغيره من المنتزهات الجيولوجية. يسعى اتحاد البلديات بالتعاون مع المجتمع المدني وبعض الجهات المانحة لجعله يستقطب السياحة المتخصّصة ويكون مختبراً طبيعياً للدراسات الجيولوجيّة والبيئية. هذا بالإضافة الى المتحف الجيولوجي الذي سيضمّ مستكشفات أحفوريّة ومتحجرات. فجزين الغنيّة بالمعالم الجيولوجيّة كان لها نصيب من العثور على بقايا ديناصور حيث أكّد فريق من باحثين فرنسيين ولبنانيين في دراسة نشرتها المجلة الألمانية «ناتور فيسينس شافتن»، العثور في قضاء جزين على سنَّي ديناصور عاش قبل 130 أو 145 مليون سنة، والسنّين بحال جيّدة. هذا بالإضافة الى غنى المنطقة بالعنبر المتحجر الذي يحفظ بداخله الحشرات بكل تكاوينها البيولوجية منذ سنوات غابرة.
أهميّة المناطق الجيولوجيّة المحميّة
يقول أنطونيو أبرو، مدير قسم العلوم البيئية في اليونسكو إن الحدائق الجيولوجية العالميّة تمثّل مناظر طبيعيّة يتشابك فيها التراث الجيولوجي ذو الأهمية الدولية مع تاريخ البشرية، مما يدعم التنوع البيولوجي الغني. فلكل حديقة جيولوجيّة جديدة قصّة فريدة من نوعها.
وعرّفت منظمة اليونيسكو المنتزهات والحدائق ذات البُعد الجيولوجي على أنها «كلّ منطقة تحتوي على معالم جيولوجيّة تتميّز إما بالندرة أو الجمال. والتي تشكل ثراء للطبيعة ولتاريخ تكوينها، وتعود بالفائدة على الثقافة والتنمية المستدامة».
وكان قد «أصدر مؤتمر عام اليونسكو في دورته التاسعة والعشرين المنعقدة في العام 1997 قراراً يقضي باتخاذ خطوات لتعزيز المنظومة العالمية للمواقع الجيولوجية»، وفق ما ذكر الموقع الإلكتروني لليونيسكو. ثم تطوّر الاهتمام بتلك المواقع، فحظيت في الدورة 37 من مؤتمر عام اليونسكو في العام 2013 بقرار تشكيل فريق عمل لدراسة الجوانب التي تشغل بال الدول الأعضاء بشأن الحدائق الجيولوجية العالمية، فتطلب الأمر إبرام اتفاق مع الاتحاد العالمي للعلوم الجيولوجية، شريك اليونسكو في برنامجها الدولي للعلوم الجيولوجيّة.
أما تسمية «حديقة جيولوجيّة عالمية لليونسكو» فقد ظهرت في العام 2015. «وتعترف هذه التسمية بالتراث الجيولوجي ذي الأهميّة الدولية. وتخدم الحدائق الجيولوجيّة المجتمعات المحليّة من خلال الجمع بين صون تراثها الجيولوجي المهم والتوعية العامة والأخذ بنهج مستدام لتحقيق التنمية». وفقاً للموقع الرسمي لليونسكو. و»تتمثّل علاقة اليونيسكو بالحدائق الجيولوجيّة العالمية في أن مجلس إدارة مبادرة الحدائق الجيولوجية العالميّة هو هيئة استشارية لدى المنظّمة تعمل على دراسة وتقييم توصيات لمشاريع قرارات اليونيسكو بشأن الطلبات الجديدة… والحدائق الجيولوجيّة التي تنتظر إعادة تأهيلها».
أما لبنان، فكان من أولى الدول التي انخرطت في حماية الطبيعة، حيث صدر أول قانون يُعنى بحماية العناصر الطبيعية المنفردة بجمالها أو بعمرها في لبنان، في العام 1939، ونص على التالي: «تُعدّ بمنزلة مناظر ومواقع طبيعيّة جميع الأراضي أو العقارات والأشجار وفئات الأشجار المنفردة الذي يستصوب حفظها بالنظر الى عمرها أو جمالها أو قيمتها التاريخية». وحذّر القانون مالكي العقارات المسجّلة في الجرد العام للمواقع الطبيعيّة من تغيير الهيئة العامة أو المواقع الطبيعيّة أو إفساد أو إنقاص من أهميتها السياحيّة. ثم تطوّر الاهتمام مع السنوات وفقاً للحاجة، فصدر القانون رقم 130 في العام 2019 (قانون المناطق المحميّة)، الذي قسّم في مادته الثانية المناطق المحميّة الى فئات: المحميّة الطبيعيّة، المنتزه الطبيعي، الموقع أو المعلم الطبيعي، الحمى. على أن يتقرر بمرسوم يُتّخذ في مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير البيئة إضافة أي فئة جديدة يُراد استحداثها.
وكان مكتب الأمم المتحدة في لبنان (United Nations Lebanon) قد نوّه بالجهود اللبنانية التي بُذلت للحفاظ على المواقع الطبيعيّة، لا سيما بعد صدور قانون تصنيف وإدارة المحميات عام 2019.
رغم هذا الاهتمام الرسمي وغير الرسمي، يبقى رئيس جمعية الأرض – لبنان، بول أبي راشد، متخوّفاً من أن تصبح السياحة البيئية في بعض الحالات عبئاً على البيئة، بدل أن تكون نعمة. ويذكر لـ»نداء الوطن» أمراً حصل الأسبوع الماضي مع مجموعة كبيرة من الشبان، توافدوا للاستجمام في بقعتوتة، وقد وصفها أحدهم بأمازون لبنان، لكن المفارقة أن صورهم تظهر اصطحابهم للأراكيل بأعداد كبيرة، ومن خلال فيديواتهم على صفحات التواصل الاجتماعي، يمكن التأكيد أنهم دمَّروا الموقع، بما فيه من نباتات أو حشرات نادرة. وبرأيه أن جميع المشاريع التي تعتمد على السياحة البيئية يلزمها مراقبة استثنائية، لأن الإضاءة عليها يجعلها مقصداً، مما يعرّض كلّ ما فيها للخطر. وكلمة «منتزه» بحدّ ذاتها، تدلّ على تخفيف شروط الحماية، إلا إذا ترافق إنشاء هذه المنتزهات مع قواعد محدّدة للدخول والمكوث، بالإضافة الى المراقبة والتنظيم لتبقى السياحة فيها مفيدة ومنضبطة، وتحقّق الغاية المرجوّة منها.
العام 2030: 30% من مساحة الوطن محميّة
انسجاماً مع الخطة العالمية التي أطلقتها الأمم المتحدة خلال قمّة العمل المناخي في 23 أيلول 2019 في مقرها في نيويورك، وكان أحد محاورها مبادرة تقودها كلّ من غواتيمالا وكورسيكا، تقضي بالوصول الى حماية 30% من سطح الأرض بحلول العام 2030، أعلنت وزارة البيئة في أكثر من مناسبة التزامها بخارطة الطريق العالمية، وكان أبرز تلك المناسبات الندوة التي نظّمتها محميّة أرز الشوف في آذار 2023 برعاية وزير البيئة الدكتور ناصر ياسين وبالتعاون مع اللجنة العالمية للمحميات الطبيعية والاتحاد الدولي لحماية الطبيعة، حيث أمِل الوزير بالوصول الى الهدف الاستراتيجي وهو أن تصبح 30% من مساحة لبنان مناطق محمية مع حلول العام 2030.
في شهر آذار 2017 أعلنت وزارة البيئة على موقعها الرسميّ أن في لبنان خمس عشرة محميّة تشكّل 3% من مساحة الوطن وقد وضعت تلك المحميات في قائمة مرفقة. ثم عادت وأكّدت على عددها ومساحتها مجدداً في 10 آذار 2020 مع إطلاق شعار «محمياتنا حياتنا» (قبل تصويت الهيئة العامة لمجلس النواب على مشاريع إنشاء ثلاث محميات إضافية). في حين وثّقت الدولية للمعلومات من خلال مقال عن محمية أرز الشوف نُشر في 6 كانون الثاني 2015، أن محميّة أرز الشوف وحدها تشغل 5% من مساحة لبنان.
ثم مع إطلاقها مشروع STEP 4 Nature، الذي تضمّن «مسح المناطق المحميّة في لبنان» بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (نقلاً عن الوكالة الوطنية للإعلام بتاريخ 16 آذار 2023)، أعلنت الوزارة عن 98 منطقة محميّة في لبنان تشكّل أكثر من 20% من مساحة الوطن، وتتضمن أنواعاً مختلفة من الحماية، وأكّدت أن هذه المساحة سترتفع حكماً «إذا أضيفت إليها مناطق التنوع البيولوجي الرئيسيّة واحتساب المواقع الطبيعيّة والمحميات الطبيعيّة المخطط إنشاؤها».
فهل فعلاً سبقنا العالم وكدنا نصل قبل ست سنوات الى الهدف الاستراتيجي العالمي؟ أو أن إعلان الوزارة هذا، كإعلان الوزير الأخير، يهدف الى تجميع نقاط وهميّة تملأ سلّة ما قبل الرحيل؟ في جميع الحالات سينتظر اللبنانيون بشغف نتائج تلك الجهود التي بذلها المعنيون طيلة هذه السنوات للوصول الى حدائق أو منتزهات جيولوجية تضع لبنان على القائمة العالمية.