صورة “القرض الحسن” لا تعكس واقعه!
من المفيد استرجاع وقائع إطلالات عدة للأمين العام لـ»حزب الله» حسن نصرالله، تناول فيها «جمعية مؤسسة القرض الحسن»، لتبيان التناقض والإشكال وحتى الأخطار التي تحيط بعملها.
فقد أقر نصرالله في واحدة من هذه الإطلالات في 9 يناير/كانون الثاني 2021 أن تأسيس الجمعية حصل بمبادرة فردية من نخب انضوت لاحقاً تحت جناح «الحزب» كحاضن لها، وأن غايتها الأساس تجنيب المحتاجين دفع الفائدة التي تفرضها المصارف على قروضهم للغايات الحياتية الملحة، من خلال إقراضهم من مواردها المحصلة من أموال الخُمس والمتبرعين والمساهمين، دون استخدامها في أي عمل استثماري يعرضها للمخاطرة. ويدفع المقترض في المقابل للجمعية رسوماً بسيطة مقطوعة عند إيفاء أقساط القرض، وأخرى شهرية لتغطية حاجاتها الإدارية، كما يقدم ضماناً للقرض ذهباً أو كفيلاً مساهماً أو مشاركاً.
وأشار نصرالله إلى أن العقوبات الأميركية التي أفضت إلى إغلاق مصرفين بحجة تعاونهما المالي مع «الحزب»، هما «البنك اللبناني الكندي» و»جمال تراست بنك»، وإلى إقفال حسابات مصرفية لكوادر «الحزب» ومؤيديه ومتعاملين معه، ساهمت في توسع أعمال الجمعية. إذ نقل هؤلاء أموالهم إليها بدلاً من تركها في المنازل أو عند أصدقاء محميين، خصوصاً أن التجارب أثبتت أن الجمعية حافظت على ما استودعت في الأوقات الحرجة في حرب يوليو/تموز عام 2006. فثارت ثائرة الأميركيين ووضعوها على لائحة العقوبات بقصد ترهيب المساهمين والكفلاء وحملهم على الانسحاب وطلب استعادة أموالهم، مما سيدفعها إلى مطالبة المقترضين بإيفاء ديونهم، ويؤدي إلى انهيارها. كذلك، أدت أزمة عام 2019 المالية الى الإقبال على تسهيلات الجمعية بسبب صعوبة اقتراض المحتاجين من المصارف، وذلك بحسب نصرالله.
حقيقة الأمور
الصورة البراقة التي رسمها نصرالله عن «جمعية مؤسسة القرض الحسن» لا تعكس في الواقع حقيقة الأمور. فالجمعية تخالف قواعد راسخة في الشرع الإسلامي، أولاها، غياب آلية التحقق من أهم شروط القرض الحسن، وهو أن المال الذي تتلقاه الجمعية بقصد إقراضه للمحتاجين، مصدره الكسب الطيب، وهذا الأمر يتماهى مع ما تطلبه الأنظمة المصرفية العالمية، من ضرورة تحقق المصرف ومؤسسات شبيهة من مشروعية أموال العملاء وفقاً للقاعدة المعروفة «إعرف عميلك» (Know Your Customer – KYC)، وهو أمر ضروري جداً لإبعاد شبهة تبييض الأموال عن الجمعية، خصوصاً أن «حزب الله» الذي يدعمها وتشارك كوادره فيها، مدرج على لوائح دولية للمنظمات التي تمارس الجريمة، من إرهاب وتهريب وترويج ممنوعات كالكبتاغون، وتبييض أموال، لا بل أن دولاً كالولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية تتهم الجمعية بتمويل عمليات غير مشروعة لـ»حزب الله»، مما يجعل القروض والأموال الخاصة بهذه العمليات آثمة، لا تمت بصلة إلى مفهوم القرض الحسن، على الرغم من وجود تيار فقهي ينفرد باعتباره دفع الخُمس، مبرئاً للذمة في حال اختلاط المال الحلال بالمال الحرام.
أيضاً لا إجماع في الفقه على أمور تعتمدها الجمعية في عملياتها، مثل اشتراط الأجل في قروضها وإلزام المقترض ببدل حفظ الذهب المرهون لديها، أو المبالغة في قيمة هذا البدل، مما قد يعتبر من قبيل الربا وينزع صفة الجمعية الخيرية عن المؤسسة، ويحولها كياناً يتوخى الربح ويقتضي حصوله على ترخيص من مصرف لبنان لمزاولته العمل كمصرف تقليدي أو إسلامي أو كمؤسسة مالية. أو قد يجب تقديم علم وخبر منه للعمل كـ»كونتوار»، وإلا بات عرضة للعقوبات، علماً أن كلا الترخيص والعلم والخبر المذكورين غير ممكنين بسبب فرض عقوبات على الجمعية وكوادرها.لا قانون تلتزم به
كذلك لم تتقيد الجمعية بأنظمة عدة صدرت عن مصرف لبنان، أهمها ما يتعلق بضرورة تسوية مؤسسات التمويل الصغير من جمعيات أهلية ومنظمات غير حكومية لأوضاعها وفقاً لأحكام محددة خلال مدة انتهت منتصف عام 2018، وأيضاً بضرورة توفيرها لمتطلبات معينة عند تثبيتها ماكينات الصراف الآلي في فروعها.
من جهة أخرى، ليس صحيحاً أن التعامل مع الجمعية أضمن ويحفظ الحقوق كما ادعى نصرالله، فبعد انهيار الليرة، أصرت ادارة الجمعية على أن يوفي المقترضون ديونهم على أسعار الصرف الموازية وليس على سعر الصرف الرسمي المنخفض الذي حدده مصرف لبنان في تعاملاته مع المصارف ولإيفاء القروض الاستهلاكية، مما أثار حفيظة عدد كبير من المقترضين الذين جاهروا بنقمتهم على الجمعية لغدرها بهم خصوصاً أنها تُعرّف عن نفسها كمؤسسة إنسانية، فإذا بها تساهم في «خربان بيوت» مقترضين كثر.
كذلك، خسر قسم من المتعاملين مع الجمعية مدخراتهم وضماناتهم أثناء حرب يوليو/تموز 2006 جراء قصف إسرائيل عدة فروع للجمعية في الضاحية، وتمت تسوية الأمر بتعويض «الحزب» للخسائر.
رهن الذهب لا العقار
أهم العبر المستقاة كانت، أولاً، الابتعاد عن قبول الرهن لعقارات في أماكن معرضة للخطر في حال حصول اعتداءات عسكرية مستقبلية وابقائها في أماكن آمنة تفيد في تمدد الجمعية و»الحزب» إلى مناطق جغرافية خارج بيئتهما، وثانياً، التركيز على ضمان الذهب مما ضيق على المحتاجين الذين لا يملكونه. علماً أن ضمان «الحزب» للجمعية ليس بالأمر المستقر، فقد ذكرت المحامية نيتسانا ليتنر في كتابها «هربون» (Harpoon) الذي تحدثت فيه عن خبايا الحرب السرية ضد أسياد أموال الإرهاب، عن فقدان «الحزب» قسماً مهماً من أمواله بالمصادرة أو بالاحتيال.
ويثير متابعون موضوعيون للأمور تهكمات في خصوص التناقض القائم بين تركيز «جمعية القرض الحسن» على استعمال الدولار في الإقراض وتقديم الضمانات والكفالات، وبين إطلالات الأمين العام لـ»حزب الله» الداعية إلى مقاطعة البضائع الأميركية، والدولار أهمها، وإطلاق بيئة «الحزب» بين وقت وآخر شعارات «الموت لأميركا»، ثم يعود أفرادها ويودعون أموالهم ويقترضون بالدولار الأميركي.
خطر على الاقتصاد
يبقى الخطر الأكبر من اتساع ظاهرة القرض الحسن على النحو المشوه والآثم المعتمد من «الحزب»، هو الضرر اللاحق بالاقتصاد اللبناني، وهو أمر استغربه نصرالله بتهكم، وتحليله «أنه ادعاء مغرض ومن قبيل العمى والحقد والحسد والعداوة ممن اخفقوا في إطلاق مشاريع مماثلة لافتقادهم الجدية والفاعلية والضمان».
واضح أنه تحليل انفعالي لا يقيم وزناً للقواعد المالية العالمية التي تقضي بإخضاع المؤسسات التي تستقطب الأموال، خصوصاً في حال تفشي «اقتصاد الكاش» مثل ما هو الحال في لبنان حيث تبلغ نسبته 47 في المئة، للتنظيم والمراقبة والتدقيق والمحاسبة، وإلا تحول البلد إلى مركز لتبييض الأموال يجعله عرضة للعزل وللعقوبات المالية الدولية.
وقد كان جليّاً أن نصرالله لا يعير أي اهتمام لهذا الشأن بدليل انتقاده علناً العام المنصرم، في ذكرى مرور أسبوع على وفاة حسين الشامي أحد مؤسسي «جمعية القرض الحسن»، من يشير إلى قانون النقد والتسليف عند إثارة أي موضوع ذي صلة بالجمعية. وهو موقف، سيجد نفسه مدعواً لإعادة النظر فيه في ظل الخطر الداهم بإمكان ضم لبنان إلى سوريا واليمن في اللائحة الرمادية لمجموعة العمل المالي لمنطقة الشرق الاوسط وشمال أفريقيا، «مينا فاتف» (Mena FATF)، عند تقييم الوضع المالي اللبناني، مما سيؤثر سلباً وبعمق على العلاقات والتحويلات المالية للبلد إلى الخارج.
وكانت المجموعة وضعت، في آخر تقرير لها في نهاية ديسمبر/كانون الأول المنصرم، النظام المالي اللبناني تحت الشبهات، وطالبت بحزمة من الإصلاحات من أهمها تشديد الرقابة على القطاع غير المالي وإعادة هيكلة القطاع المصرفي. وقد مرت أربعة أشهر ولم يتحقق أي شيء.