لا كهرباء مستدامة للبنان من دون طاقة متجددة

بقلم العميد المتقاعد الدكتور غازي محمود

بينما يرتفع السجال بين وزيري الاقتصاد والطاقة بشأن العرض القطري تزويد لبنان بمحطة تعمل على الطاقة الشمسية لإنتاج 100 ميغاواط من الكهرباء، تستمر معاناة اللبنانيين من انخفاض عدد ساعات التغذية بالطاقة الكهربائية التي توفرها مؤسسة كهرباء لبنان. كما يُشكل عدم انتظام التغذية وعدم الاعلان عن مواعيدها سبباً إضافياً لمعاناتهم، والذي يحول دون استفادة المواطنين من ساعات التغذية بالشكل الامثل. وما يزيد من معاناة المواطنين التأخير في اصدار فواتير مؤسسة كهرباء لبنان قُرابة السنة، وتركهم لقمةً سائغة لمطامع أصحاب المولدات وفواتيرهم الموجعة.
وتجدر الإشارة الى أن العرض القطري ليس الأول الذي تُفشله قوى السلطة، بل سبق أن تجاهلوا عرضاً مماثلاً من قطر منذ ما يُقارب السنة، لبناء ثلاث محطات وليس محطة واحدة وحسب. وتعطيل قوى السلطة المتصارعة شمل أيضاً عرض الصندوق العربي الكويتي لتمويل خطة العام 2010 للكهرباء، ومن بعده عرض شركة سيمنس لإقامة معامل انتاج للطاقة الكهربائية وكذلك العرض الصيني للغرض عينه.
وقد واجه تطوير قطاع الطاقة الكهربائية العثرات والتعطيل منذ أُطلقت مشاريع إعادة الاعمار بعد ان حطت الحرب رحالها في مطلع التسعينيات. والتعطيل الذي كان سببه النكد السياسي بين قوى السلطة حول قطاع الطاقة الكهربائية من مرفق استراتيجي بما يُوفره من طاقة تشغيلية لكافة القطاعات الاقتصادية، الى ساحةٍ لتصفية الحسابات السياسية والسجالات العقيمة بين اطرافها.
ومن المفارقات أن تطوير قطاع الطاقة الكهربائية تزامن مع اهمال المعامل الكهرومائية إن لجهة صيانتها أو لجهة تطويرها، على الرغم من أنها كانت توفر %70 من حاجة لبنان من الكهرباء حتى العام 1976. وظلت مشاريع التطوير عاجزة عن تحقيق الهدف منها، على غرار معملي عرمان والزهراني المجهزين للتشغيل على الغاز الطبيعي الذي اقتصر استخدامه على اشهر معدودة خلال العام 2009.
وطاول التعثر محاولات إنتاج الطاقة الكهربائية من حركة الرياح، نتيجة المماطلة في تعديل القانون 462/2002 ومن ثم تعذر الحصول على التمويل الخارجي بسبب الازمة الحالية. وقد أنهى هذا التعديل احتكار مؤسسة كهرباء لبنان للطاقة الكهربائية، وأعطى الحق لمجلس الوزراء بمنح التراخيص بصورة موقتة لمدة سنتين. اما التراخيص فقد كانت من نصيب كل من “عكار المستدامة”، “طاقة الرياح في لبنان”، و”هوا عكار” بقدرة يبلغ مجموعها 200 ميغاواط، بموجب القرار الرقم 43 تاريخ 2/11/2017.
وقد بقيت القوانين التي تنظم قطاع الطاقة حبراً على ورق، بدأً من القانون 462/2002 (تنظيم قطاع الكهرباء)، والقانون 48/2017 (تنظيم الشراكة بين القطاعين العام والخاص) والقانون 318/2023 (قانون انتاج الطاقة المتجددة الموزعة). وذلك جراء رفض وزراء الطاقة المتعاقبين التقيد بأحكام قانون تنظيم قطاع الكهرباء لجهة تشكيل الهيئة الناظمة، التي يعود لها أيضاً صلاحيات تطبيق العديد من احكام قانون انتاج الطاقة المتجددة الموزعة الذي أُقِر في نهاية العام 2023.
وكان لإبقاء الدولة سعر الكيلوواط ساعة اقل من كلفته الحقيقية، السبب المباشر لعدم اهتمام اللبنانيين وحتى المقتدرين منهم مالياً في اعتماد الطاقة المتجددة. ومن الأسباب أيضاً غياب البرامج التي تحفز الافراد والمؤسسات على التحول الى الطاقة المتجددة، على الرغم من ميزاتها لجهة الاستدامة والتكلفة المعقولة. وذلك في وقت كانت تراكم مؤسسة كهرباء لبنان المزيد من الدين العام لشراء الفيول لتشغيل المعامل وصيانتها، من دون ان تتمكن من استعادة الا نسبة محدودة من هذه التكاليف.
وفي الوقت الذي كان حريٌ بالأزمة المالية والاقتصادية التي المت بلبنان ولا تزال، أن تكون حافزاً للقيمين على قطاع الكهرباء لاعتماد مقاربات جديدة لمعالجة أزمة استدامة التغذية بالطاقة الكهربائية، اقترحت وزارة الطاقة في شباط من العام 2023 انشاء ثلاثة معامل اضافية تعمل بالوقود الاحفوري لإنتاج الطاقة الكهربائية في حين تعجز عن تأمين تكاليف تشغيل المعامل القائمة.
وجاء هذا الاقتراح في وقتٍ ارتفع فيه انتاج الكهرباء من الطاقة الشمسية الى ما يُقارب 1500 ميغاواط، لتصبح حاجة لبنان من الكهرباء تقتصر على 1700 ميغاواط، فيما تصل قدرة معامل الإنتاج العاملة حالياً الى 2000 ميغاواط. كما تم بقرار من مجلس الوزراء بتاريخ 12/5/2022 بناءً على اقتراح وزير الطاقة، منح 11 ترخيصاً لإنتاج الكهرباء حصراً من الطاقة الشمسية بقدرة انتاجية تصل الى 165 ميغاوات، على ان يبدأ الإنتاج في غضون ثلاث سنين.
في المقابل، تعترض خطة الكهرباء الأخيرة عقبات ذات ابعاد سياسية تزيد من مصاعب تحقيقها وتحول دون تطويرها وصولاً الى توفير كهرباء مستدامة. مع العلم أن هذه الخطة اقتصرت على معالجة انتاج وتوزيع الكهرباء المنتجة من معامل مؤسسة كهرباء لبنان الحرارية، من دون غيرها من المصادر التي يُمكن ان تتكامل فيما بينها للوصول الى عدد اكبر من ساعات التغذية.
تتطلب العثرات والعقبات التي اعترضت وتعترض تطوير قطاع الطاقة الكهربائية، خطة متكاملة تتبناها الحكومة اللبنانية. ولا بد من أن تتم مناقشة هذه الخطة على أوسع نطاق من قبل المجتمع المدني، على غرار ندوة النقاش التي أقامها مشكوراً الحزب التقدمي الاشتراكي في 29 أيار الماضي بمناسبة يوبيله الماسي تحت عنوان “ملف المياه والطاقة البديلة”. حيث تسمح مثل هذه الندوات برفع درجة الوعي عند المواطنين لأهمية الطاقة البديلة، واحاطة المعنيين بكافة جوانب أزمة قطاع الطاقة وسبل معالجتها.
ولا بد للخطة العتيدة من أن ترتكز على المقدرات الوطنية لا سيما منها مياه الأنهر والبحر، حركة الرياح واشعة الشمس، بالإضافة الى المعامل العاملة حالياً المائية منها والحرارية وحتى المولدات الخاصة. ولا بد أن تشمل الخطة إنتاج الطاقة الكهربائية من معالجة النفايات الصلبة، الامر الذي يُساهم في حل ازمة النفايات وينتج الكهرباء في الوقت عينه.
ذلك أنه في خضم الازمة المالية التي يتخبط فيها لبنان، اصبح من الصعب توافر مصادر تمويل مناسبة لاستثمارها في قطاع الطاقة. الامر الذي يتطلب تفعيل قانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص، والعمل على تشجيع الاستثمارات في الطاقة المتجددة والنظيفة.
أما الطريق الى حل أزمة الطاقة الكهربائية فتبدأ من إرساء الحوكمة الرشيدة وتطبيق مبدأ المسائلة والمحاسبة، ذلك أن تقيد المسؤولين بالأحكام القانونية والعمل على تنفيذها هو شرط نجاح اي خطة مستقبلية. وكذلك من خلال تحقيق الاستقرار الأمني والسياسي اللذين لا بد منهما لجذب الاستثمارات الجديدة. أما الخطوات الواجب اتخاذها لحل أزمة الكهرباء فيمكن إيجازها بما يلي:
– منع التعديات على خطوط النقل والتوزيع وسرقة الكهرباء وانزال اشد العقوبات بمرتكبيها.
– صيانة المعامل الكهرومائية والعمل على تطويرها وإقامة معامل كهرومائية جديدة باعتماد التقنيات الحديثة التي لا تحتاج لضغط مياه مرتفع.
– تحفيز البلديات وأصحاب المولدات الخاصة على المساهمة في إقامة محطات طاقة شمسية لإنتاج الكهرباء.
– إعادة النظر بسعر الكيلوواط المُنتج من الطاقة الشمسية والذي تشتريه مؤسسة كهرباء لبنان من المنتجين الأفراد لتحفيزهم على انتاج أكبر كمية من الكهرباء.
– معالجة المطامر الحالية للاستفادة من انبعاثات غاز الميتان في توليد الكهرباء على غرار مطمر الناعمة، وللحؤول دون انفجار هذه المطامر وللحد من مخاطرها البيئية.
– إقامة معامل لمعالجة النفايات الصلبة باستخدام تقنيات تسمح بإنتاج الطاقة الكهربائية والتخلص من النفايات في الوقت عينه.
– إعطاء الضمانات والتسهيلات الممكنة لمشاريع الطاقة الهوائية بما يُساعد على تنويع مصادر الكهرباء واستدامة التغذية.
– تأمين الغاز الطبيعي لتشغيل معملي عرمان والزهراني بما يُساهم في تخفيض كلفة الإنتاج ويخفف الاعباء عن كاهل المواطنين.
– تسريع إصدار فواتير مؤسسة كهرباء لبنان ما يسمح للمستهلك بمراقبة وترشيد استهلاكه.
أما بعد فالمطلوب لاستقامة وضع الخدمات العامة ومن ضمنها تأمين استدامة التغذية بالطاقة الكهربائية، وضع حد لتعاطي القيمين على هذه الخدمات باعتبارها اقطاعات طائفية او سياسية لهم. ذلك أن هذه الخدمات هي حق للمواطن على دولته، ومن واجب كل من يتولى شأناً عاماً ان يبذل قُصارى جهده لتوفيرها على افضل وجه وأدنى كلفة وفي الوقت المناسب.
ويجب ألا تُثني الازمة المالية والاقتصادية التي يُعاني من تداعياتها كل لبناني، لا سيما موظفو القطاع العام، عن العمل الجاد على إعادة الإدارات والمؤسسات العامة الى نشاطها وتطويرها لمواكبة روح العصر قبل فوات الأوان وحيث لا ينفع الندم.
٥/٦/٢٠٢٤

Leave A Reply

Your email address will not be published.