سندات الـ”يوروبوندز”… معضلة كامنة بلا حلّ
علّق لبنان سداد دينه الخارجي لناحية الأصل والفائدة بتاريخ 9 آذار 2020، ومنذ ذلك الحين والدولة اللبنانية في حالة «كوما» على هذا الصعيد. فهي لم تبادر لا الى تنظيم استعادة المودعين أموالهم ولا الى اصدار قانون كابيتال كونترول ولا إصلاحات مالية، ولا هي وجدت آلية للتفاوض مع الدائنين حول تسديد الدين.
فالدين الخارجي الذي يترتّب على لبنان تسديده من خلال سندات الـ»يوروبوندز» والذي صار يزيد على 40 مليار دولار مع الفوائد «طنّشت» الدولة اللبنانية بالـ»عربي المشبرح» عن طرحه على طاولة البحث ولو لمرّة وإدراجه ضمن خطة الحكومة أو في قانون الموازنة العامة. باختصار تناست الدولة بالكامل مسألة الدين العام اي الداخلي والخارجي والذي سجّل قبل اندلاع الأزمة المالية منذ 4 سنوات نحو 92 مليار دولار، رغم تعاظم المخاطر من رفع حاملي سندات الـ»يوروبوندز» دعاوى على الدولة اللبنانية.
الدولة تتجاهل مخاطر إمكانية الحجز على أصول الدولة في الخارج ومنها الذهب. فهي تتّبع المثل القائل «سيري وعين الله ترعاكي». وعملاً بشروط سندات الـ»يوروبوندز» التي أصدرتها الدولة اللبنانية، فإن قانون نيويورك هو الواجب تطبيقه، ومحاكم مدينة نيويورك والمحاكم الفيدرالية الموجودة هناك هي صاحبة الإختصاص القضائي للبتّ في النزاعات المتعلّقة بالـ»يوروبوندز».
واستناداً الى «مقالة أو مطالعة قانونية» أجراها سابقاً ونشرت في «نداء الوطن»، وزير العمل الأسبق المحامي كميل أبو سليمان المسجّل في نقابتي نيويورك وبيروت «فإن شروط سندات الـ»يوروبوندز» حدّدت لحملة السندات فترة 5 سنوات للمطالبة بالفوائد و10 سنوات للمطالبة بأصل الدين منذ تاريخ التوقّف عن الدفع. لذلك، من المرجّح رفع دعاوى ضد الدولة قبل 9 آذار 2025 لأنه، بعد هذا التاريخ، سيبدأ حاملو السندات بفقدان حقّهم بالفائدة، إلا في حال تمّت إعادة هيكلة الـ»يوروبوندز» قبل هذا التاريخ.
ما هي الآلية؟
هذا الواقع يطرح علامات استفهام حول المسار الذي يجب ان تسلكه الدولة قبل آذار 2025 وبعده. حول هذا الأمر أوضح مدير المحاسبة السابق في وزارة المالية أمين صالح لـ»نداء الوطن»، أن طريقة تسديد الدين من الدولة يتطلب سلوك أحد الخيارات التالية:
1 – إعلان الدولة عن رغبتها بالتفاوض مع الدائنين، معترفة أنه يترتب دين عليها.
2 – الإعلان قسراً، اذا كان لديها إمكانيات، عن رغبتها بشراء السندات من السوق بالسعر السوقي ما يمثّل 6 أو 7% من القيمة الإسمية. وهذا ما طرحناه سابقاً عندما كان سعر السند يساوي 15 و 17%. وقتها كان احتياطي مصرف لبنان كبيراً، ولكن لم يتلقف أحد فكرة شراء سندات الـ»يوروبوندز» بسعرها السوقي خاصة أنها كانت في حال تراجع دائم، وهكذا تسترجع السندات بسعر السوق.
3 – التفاهم على القيمة الإسمية بتاريخ 31/12/2019 مع حسم كل الفوائد التي دفعت خلافاً للأسواق العالمية على الـ»يوروبوندز». وبالتالي تحصل مصالحة مع الدائنين اذا كانت الدولة لديها خطّة استراتيجية لفترة زمنية محددة لشراء السندات ومدى قدرتها على الشراء كل سنة بسعر السوق الفعلي. وبرأيي هذه افضل الطرق».
تأمين الأموال
يقول صالح حول مصدر تأمين الأموال: أولاً، يجب العودة الى الحسابات في البنك المركزي، واطلاع الدولة على حقوقها فيه والديون التي تترتّب على مصرف لبنان لصالح الدولة عبر ميزانياتها. والإطلاع على حساب الدولة في مصرف لبنان رقم 36 الذي يتضمن إستناداً الى رئيس الحكومة خلال مناقشة وإقرار موازنة 2024، نحو مليار دولار بالعملة الأجنبية ونحو 1,2 مليار دولار بالليرة اللبنانية». وهذه المقترحات إستناداً الى صالح «سبق أن طرحناها بلقاءات عدة وندوات ولم نسمع جواباً من الحكومة عليها».
وفي الغضون يؤكّد أن إمكانية التسديد وفق تلك المعادلة واردة والتفاهم مع الدائنين وارد. فندرس كم تبلغ القيمة الإسمية للسندات والفوائد المترتّبة والقيمة السوقية وما هو الأفضل للدولة يتمّ التوافق عليه مع حملة السندات.
فمن مصلحة أصحاب سندات الـ»يوروبوندز» إسترداد أموالهم ورأسمالهم. لأن من تخلى عن السند تخلى بإرادته ومن اشترى السند الآن لم يستحصل عليه بالقيمة الأسمية بل بأقل، فمهما حصّل الدائن من الدولة يكون رابحاً ولكن «على من تقرأ مزاميرك يا داوود». فاستراتيجية التخلص أو تخفيف الدين العام أو التعافي النقدي والمصرفي تعود الى السياسة الإقتصادية المتبعة من المنظومة السياسية الحاكمة اليوم.
في حال صدور أحكام
في حال صدور أحكام لصالح حاملي الـ»يوروبوندز»، كما جاء في مطالعة أبو سليمان، تتحوّل صفتهم من «دائن» الى «مستفيد من حكم قضائي». وهذه الأحكام لا تخضع لـ»بنود العمل الجماعي collective action clauses الواردة في سندات الـ»يوروبوندز» والتي تتيح للدولة إجبار أقلية حاملي السندات على قبول إعادة الهيكلة في حال تمكّنت الدولة من نيل موافقة حاملي نسبة 75% من سندات الـ»يوروبوندز» في كل سلسلة (على أساس التصويت لكل سلسلة على حدة). واذا صدرت أحكام قضائية، عندها يتوجّب حينئذٍ على الدولة أن تتفاوض مباشرة مع أصحاب هذه الأحكام».
الحجز على أصول الدولة
«تمنح الأحكام الصادرة لأصحابها حق التنفيذ على أصول الدولة في الخارج (في حال توافرها)، باستثناء الأصول التي تتمتع بحصانة كالسفارات مثلاً»، كما ورد في مقالة ابو سليمان. ولكن يضيف: «ما لم تتنازل دولة ما عن حصانتها بالنسبة الى الحجوز الاحتياطية، وهذا ما لم يفعله لبنان، فلا يستطيع الدائنون إلقاء الحجز الإحتياطي على أصول الدولة قبل صدور أحكام قابلة للتنفيذ».
وفي السياق نفسه، يوضح رئيس مؤسسة JUSTICIA الحقوقية في بيروت والعميد في الجامعة الدولية للأعمال في ستراسبورغ المحامي د. بول مرقص خلال حديثه الى «نداء الوطن»، «إن «الحجز على أصول الدولة يختلف بين ما اذا كانت الأصول مرتبطة بالحكومة أو تعود الى مصرف لبنان».
فالمشترع اللبناني في قانون النقد والتسليف، يضيف مرقص، «أعطى إستقلالية لمصرف لبنان ومحضه الشخصية المعنوية المستقلة عن الحكومة بغية حمايته من هكذا حجوزات. وكذلك بالنسبة الى إقالة الحاكم بشروط ضيقة كي لا يكون خاضعاً لإمرة الحكومة مباشرة وسلطتها المطلقة».
أما في القانون الأجنبي فهناك كما قال ما يسمّى Sovereign Community Acts في كل من إنكلترا والولايات المتحدة الأميركية الصادرة في أواسط سبعينات القرن الماضي في ما يخصّ اصول المصارف المركزية والحجز عليها. لذلك برزت الخشية وقتها من إقامة حجوزات على مصرف لبنان وأصوله ومساهماته في شركة «إنترا» وشركة «طيران الشرق الأوسط» إذ كانت هناك بالفعل محاولات منذ نحو 20 سنة للحجز على إحدى طائرات الشركة في تركيا ولم تنجح. لكن في الممارسة العملية ربما قوّضت الحكومة سلطة مصرف لبنان عندما استحصلت منه على أموال تعود للمصارف والمودعين، وكذلك في تعاملاتها مع حاكمية المصرف المركزي ممّا قد ينتقص من هذه الحماية إضافة الى توقّف الدولة غير المدروس عن الدفع».
هذه إشكاليات متناقضة برأي مرقص، «لا يمكن بموجبها الجزم منذ الآن ما اذا كان من الممكن أو غير الممكن الحجز على أصول الدولة أو مصرف لبنان في ضوء ما تقدّم من اشكاليات وبانتظار ما سيدلي به الدائنون. لكن على الأقلّ يجدر القول أن الذهب ورغم هذه المخاطر المحدقة هو منظّم بقانون صادر في عهد الرئيس أمين الجميّل الذي اعطاه مكانة خاصة بحيث لا يمكن التصرّف به إلا بقانون. وهو الأمر الذي يمكن أيضاً اعتباره حماية إضافية للذهب لكنّها ليست مطلقة تقيه بالضرورة من الحجز».
تداعيات سلبية
ويستتبع حملة الدعاوى المرتقب ان تقام من الدائنين تداعيات سلبية، يوضحها المستشار المالي والإقتصادي غسان أبو عضل لـ»نداء الوطن» كما يلي: «الدول يمكن أن تتعثّر بالدفع ولكن لا يمكنها أن «تطنّش» عن الدفع. في حالتنا لم تتفاوض الحكومة اللبنانية مع أحد، لا بالدين الخارجي من خلال الـ»يوروبوندز» ولا الداخلي علماً أن جزءاً من سندات الـ»يوروبوندز» كانت تحوذه المصارف اللبنانية ولكن تمّ بيعها عند بدء الأزمة. وكان من الممكن التفاوض مع الدائنين وقتها وإبقائها ضمن المصارف اللبنانية».
وفي حال استمرار الدولة في المسار الذي تسلكه وتجاهل موضوع الدين وبدء رفع الدعاوى من الدائنين في الخارج عليها، تبرز الخطورة على سمعة البلد ومستقبل الأجيال المقبلة الذين سنترك لهم إرث السمعة السيئة والديون المتراكمة والدعاوى الخارجية، فقط لأن الدولة لا تريد أن تتحرّك أكان في ما يتعلّق بالدين أو بمشكلة القطاع المصرفي. فمنذ اليوم الأول للأزمة كان يترتب على الدولة أن تصدر قوانين وتضبط القطاع المصرفي وتراقبه وتلزمه بإعادة أموال المودعين من خلال مصرف لبنان. لكن للأسف نعيش في لبنان في «كوما» أو غياب كلّي منذ 4 سنوات لليوم، وضياع كامل وتخبّط وعدم اتخاذ قرارات، متسائلاً هل هذا الأمر مقصود؟».
وبالنسبة الى آلية التحرّك التي يترتّب على الحكومة أن تقدم عليها في ما يتعلّق بالتفاوض مع دائني سندات الـ»يوروبوندز»، فهي إستناداً الى أبو عضل «عرض الدولة على الدائنين مدى قدرتها على الدفع، ويمكن لهؤلاء أن يرضوا بحسم جزء معين، فيحسموا ليس فقط نسبة الفوائد وهي أمر محتوم، وإنما يقتطعوا من أصل مبلغ الدين. ويُحكى عن حسومات بمبالغ كبيرة جداً وبشروط جديدة بفوائد صفرية. فمقاربة المدينين من زاوية الإعتراف بأننا نواجه مشكلة وأزمة، أفضل من التعثّر وانتظار بدء رفع الدعاوى، لأن التفاوض عندها يكون أصعب وتحت الضغط وهذا ليس لصالح الدولة اللبنانية».
تحمل المصارف التجارية اليوم إستناداً الى أمين صالح سندات «يوروبوندز» بقيمة نحو 2,5 مليار دولار من أصل ما كانت تحمله سابقاً والذي كان يبلغ 14 أو 15 مليار دولار والمتبقي مقسم على البنك المركزي أو على جهات خارجية اخرى. وبالتالي تخلّت المصارف عن سندات الـ»يوروبوندز» وباعتها بأسعار تتراوح بين 20 سنتاً لكل دولار و30 أو 40 سنتاً.
أكّد رئيس لجنة الرقابة على المصارف السابق سمير حمّود لـ»نداء الوطن» أن «المشكلة في تسديد الديون بتحديد المهلة ومصادر السداد. وهذا يظهر من خلال ميزان المدفوعات للسنوات المقبلة الذي يجدر أن يبقى بيد ادارة جيدة وحكومة جديّة فاعلة ونظيفة».
وإذ أشار الى أن «الوضع اليوم لا ُيعطي إنطباعاً أننا في وضع سليم وأن الإصلاح ممكن، اعتبر أن البلد لا يزال في تخبط. والحلّ تلزمه تطورات كبيرة وعميقة والا نبقى في دائرة حلقة الاستهلاك واقتصاد الـ»مافيوزية» والإبتعاد عن الطريق الصحيح، الذي يبدأ بانتخاب رئيس جمهورية وحكومة متجانسة وقانون انتخاب موحد والاهم نظام وقانون فوق الجميع من خلال قضاء نظيف مستقل. لن يكون ذلك ممكناً، إستناداً الى حمود، إذا لم نخضع الجميع لسلطة الدولة، لذلك قبل التفاوض على السداد لنتفاوض على بناء الدولة».