شكوك حيال “المضمَر” في هبة المليار يورو من الاتحاد الاوروبي
تتسع دائرة الشكوك الشعبية والسياسية حول الجوهر الحقيقي والتفاصيل الدقيقة لمضمون بنود اتفاق هبة المليار يورو الذي أُعلن عنه أخيرا بين الإتحاد الأوروبي ولبنان، تحت عنوان “دعم لبنان… والتعاون من أجل مكافحة عمليات تهريب اللاجئين إنطلاقا من السواحل اللبنانية”.
البعض استعاد مشهدية “إتفاق القاهرة”، الذي ضمّنه موقعوه في 3 تشرين الثاني 1969 بنودا بقيت سرية، إلى أن كشفتها “النهار” في عددها الصادر في 20/4/1970 مما تسبب بأزمة سياسية كبيرة، حيث أفضى السجال يومذاك إلى تشرذم وطني وانقسام اللبنانيين بين معارض وداعم، وفقدان الثقة بالدولة وأجهزتها، وتفشي المظاهر الأمنية المقلقة التي أوصلت لبنان إلى الإنفجار الكبير عام 1975.
ما أشبه اليوم بالأمس، وما أشبه التطمينات الحكومية راهنا بتطمينات الطبقة السياسية آنذاك، وما أتعس هذه البلاد التي شاء القدر حشرها على الدوام بين أمواج اللاجئين، وتخييرها ما بين القبول بتوطين شعب آخر فيها وخسارة هويتها، أو التعرض للإفقار ولأخطار أمنية وسياسية تقوّض الدولة والإقتصاد وتضعها في مهب التناقضات التي تزيد من الشرخ الوطني والعزلة الدولية.
فهل سنشهد سيناريو مماثلاً مع النازحين السوريين؟ علما ان أوجه الشبه مختلفة حيال العدد والتوزع المناطقي، إذ ان عدد السوريين يناهز المليوني نازح موزعين على كل الاراضي اللبنانية فيما عدد اللاجئين الفلسطينيين نحو 200 ألف محصورين بعدد من المخيمات.
هذه الشكوك دفعت غالبية القوى السياسية إلى المطالبة بكشف النص النهائي للإتفاق ان وجد، وذهب بعض الكتل ونواب إلى المطالبة بجلسة نيابية طارئة ببند وحيد، هو مناقشة مضمونه ومحتواه الحقيقي، والموقف الرسمي اللبناني ومدى تطابقه مع المصلحة اللبنانية العليا، والتأكد من عدم وجود بنود ملتبسة قد تؤدي إلى فرض توطين النازحين السوريين أو تأبيد بقائهم في لبنان، أسوة بما حصل مع الفلسطينيين، أو يتسبب الاتفاق العتيد بتصدع جديد للدولة والأمن الاجتماعي والسياسي للبنانيين.
ماهية الهبة
الأسبوع الماضي، أعلن رئيس حكومة تصريف الاعمال نجيب #ميقاتي عن هبة قيمتها مليار يورو يعتزم الاتحاد الأوروبي تقديمها للبنان لمساندته. واكد أن هذه الهبة ستقدم للدولة اللبنانية بشكل مباشر وستكون على دفعات تستمر لسنة 2027. وفي حديثه، اشار ميقاتي، عرضاً، الى ان هذه الهبة ستذهب لقطاعات التعليم والصحة وسواها وسيذهب قسم منها للجيش اللبناني لضبط الحدود. ويُستنتج من حديثه أن هذه الهبة تأتي في اطار ما سمّاهpackage يجري تنفيذه مع الاتحاد الاوروبي ويتضمن بنودا أخرى أهمها إتاحة الهجرة الشرعية الموسمية للبنانيين الى دول اوروبية، مؤكدا في الوقت عينه أن الاتحاد الاوروبي يعتبر أن لبنان من دول الجوار التي تتحمل ازمة النزوح، لذا يعتزم مساعدته ماديا والقيام بإجراءات أوروبية تجاهه وتجاه الشعب اللبناني.
وبالرغم من تأكيد ميقاتي أن الهبة الأوروبية غير مشروطة بإبقاء السوريين في لبنان، فلا وجود لأدنى شك في ان هذه الهبة هي للإنفاق على القطاعات اللبنانية في سبيل مساعدتها على تحمّل مليوني نازح سوري موجودين على أراضي لبنان والإبقاء عليهم اقله لسنة 2027، بيد أن الإعلان أثار مواقف سياسية من الجهات كافة والكتل السياسية والنواب الذين اتجهوا بمعظمهم الى رفض الهبة وشجب اي قبول لها.
عودة النازحين بقرار دولي!
حددت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين انفاق المليار يورو على موارد عدة: التنمية الاجتماعية، الإصلاحات الاقتصادية والمالية والمصرفية، محاربة الهجرة غير الشرعية، ومساعدة اللاجئين والمجتمعات المضيفة، لكنها لم تتطرق أبدا الى السبل لعودة النازحين الى بلادهم، وتاليا فإن مجرد أن لا يرد بند العودة بوضوح على اجندتها فهو إقرار ببقائهم في لبنان حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.
الوزير السابق نقولا نحاس استغرب الضجة التي أثيرت حول الموضوع، خصوصا أنه ليس بجديد، وقال: “كل ما في الامر أنهم زادوا حصة الجيش والقوى الامنية لتعزيز المراقبة على الحدود البرية”.
وأكد نحاس أن المليار يورو ليست مشروطة بابقاء النازحين السوريين في لبنان، بيد انه في المقابل أقر بأن عودة النازحين السوريين الى بلادهم مرتبطة بقرار دولي، وتاليا لا مجال لعودتهم بالقوة، وفي حال حصل ذلك، فإن لبنان سيتعرض لعقوبات لا احد يستطيع تحمّلها.
هبات تخالف الانتظام العام اللبناني؟
الأستاذة المحاضرة في القانون الدولي الدكتورة جوديت التيني أوضحت أن “اجتماع #مجلس النواب لمناقشة الهبة الأوروبية ومجمل ملف النزوح السوري يتخطى نطاق النص القانوني العام الذي يجعل من مسألة قبول هبة او رفضها منوطة بمجلس الوزراء”، فالمسألة بحسب التيني “أعمق من ذلك بكثير وتدور حول إمكانية قبول هبة تتعارض مع الانتظام العام في لبنان، ومع الدستور اللبناني لا سيما الفقرة “ط” من مقدمته وهي جزء لا يتجزأ من الدستور، ومع الميثاق الوطني اللبناني”. واعتبرت التيني أن “الهدف البعيد من قبول هذه الأموال يتعارض مع الانتظام العام اللبناني ومبادئ الميثاق الوطني لعام 1943 وما كرسته الفقرة “ط” من مقدمة الدستور بشكل صريح من أن ارض لبنان هي فقط للبنانيين وان لا توطين وسواه من المبادئ، وهذا ما يعززه ايضا عدم اقران قبول هذه الأموال بخطة موازية لإعادة السوريين الموجودين على الأراضي اللبنانية الى بلادهم. من هنا يمكن التأكيد ان مناقشة الهبة في مجلس النواب هو واجب دستوري ووطني واخلاقي ولا بد من التوصية بعدم قبولها لعدم دستوريته”.
وفيما بدأت المواقف النيابية من الهبة تُعلن من النواب وتكتلاتهم وما قد ينتج من مواقف وتوصيات نهائية للحكومة، وعلى رغم انها لم تصل بعد الى طاولة البحث في مجلس الوزراء فمن المؤكد، وفقا لما أتى على لسان ميقاتي، انها ستكون للدولة اللبنانية ولن تُمنح الأموال لجهات خاصة ولا لمفوضية اللاجئين في لبنان. وفي السياق أكدت التيني انتفاء اي موجب في القانون الدولي يحتم على الدولة اللبنانية قبول الهبة، انما للدولة اللبنانية الخيار في القبول او الرفض وفقا لما ترتئيه وتراه من أسباب تؤمن المصلحة الوطنية وتطبيقا لمبدأ السيادة، مع التذكير بأن لبنان ليس موقعا على اتفاقية اللاجئين لعام 1951 في حين ان الدول الاوروبية موقعة عليها وهي ملتزمة من باب اولى باستقبال السوريين على ارضها، كما انها ملتزمة تجاههم سندا للمادة 78 من معاهدة عمل الاتحاد الاوروبي وللتوجيهين directives الصادرين عن البرلمان الاوروبي والمجلس qualification وreception رقم 2011/95 ورقم 2013/33 وينبغي على الدول الاوروبية ان تلتزم بمبدأ تقاسم اعباء اللاجئين السوريين المكرس من مجلس الامن في الامم المتحدة سنة 2014 في ضوء قدرتها على تحمل ذلك.
ومن ناحية عملية، شددت التيني على أن “قبول الهبات على اختلافها او رفضها سواء اكانت عينية ام نقدية وآلية يخضع قيدها للمادة 52 من قانون المحاسبة العمومية اللبناني وتعديلاتها، لا سيما التعديل المُقرّ بالمادة 85 من موازنة العام 2019 الصادرة بالقانون الرقم 144/2019. وهذه الهبة تتطلب قبولها في مجلس الوزراء، لأنه عملا بهذه الاحكام القانونية، يكون قبول الهبات التي تفوق قيمتها 250 مليون ليرة لبنانية بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء، اما الهبات ما دون هذا المبلغ فيخضع قبولها لمرسوم عادي بناء على اقتراح وزير المال والوزير المختص”.
وفي حال تم قبول الهبة، وكي لا تذهب الأموال هدرا والى الجيوب كما حصل للعديد من الهبات التي حصلت عليها الدولة اللبنانية منذ التسعينات الى اليوم، فلا بد وفقا للتيني من ان تُسجّل الهبة اولاً وأن يكون هذا التسجيل وفقاً للأصول القانونية، وأهم هذه الاصول أن “تسجيل الهبة لا يكون بفتح حسابات خاصة، انما من خلال حساب الخزينة أي الحساب الموحد للخزينة وإدخال الهبة في صلب الموازنة العامة. فالحسابات الخاصة خارج الموازنة تشكل مخالفة صارخة لمبدأ الوحدة ومبدأ شمول الموازنة المكرّس في المادة 51 من قانون المحاسبة العمومية والذي يوجب ضرورة ان تُقيّد الواردات المقبوضة برمتها في قسم الواردات من الموازنة لتغطية جميع أوجه الانفاق العام. اما إذا كانت للهبة وجهة إنفاق معينة (مع التحفظ لناحية عدم دستوريتها في حال تخصيصها للإنفاق على السوريين) فتقنيّا تفتح لها اعتمادات في قسم النفقات من الموازنة وتخصص لهذا الانفاق بالتحديد”.
أما في حال إقرار الهبة يبقى التحدي في حسن تنفيذها وتعقب كيفية صرفها وممارسة الرقابة على إنفاقها عملا بمبادئ الشفافية والنزاهة، لان في التجربة اللبنانية دروسا عن سوء تنفيذ الهبات وتبديدها واستعمالها في غير مصلحة اللبنانيين. وفي المعطيات الاخيرة يبدو ان التوجه يدور اليوم حول قبول الهبة في مجلس الوزراء، غير انّ ميقاتي يسعى قبل ذلك لأخذ الغطاء السياسي من مجلس النواب، وإذا لم يفلح فأقله يكون قد نجح في ادخال مجلس النواب في صلب النقاش حول الموضوع لعله يتحمل جزءا من المسؤولية واللوم تجاه الرأي العام اللبناني.
الباحث في الدولية للمعلومات محمد شمس الدين أكد أنه منذ العام 2012 بلغ معدل الهبات والمساعدات للجمعيات الاهلية التي تهتم بالنازحين السوريين نحو مليار ونصف مليار سنويا من الاتحاد الاوروبي والولايات المتحدة الاميركية، في حين أن الدولة اللبنانية لم تحصل على شيء.
ويرى شمس الدين ان “المشكلة تكمن في ما اذا كانت هذه المنحة مشروطة بعدم ترحيل السوريين خصوصا ان القانون اللبناني يحظر على الدولة قبول منح خارجية مشروطة، ولكن هذا الامر يبقى مرهونا بنص اتفاق المنحة الذي لم ينشر بعد”.
وفيما دعا ميقاتي الرئيس بري الى عقد جلسة لمجلس النواب بما يطرح السؤال عن الجهة المخولة قبول الهبة، أكد شمس الدين أن “ميقاتي لا يريد تحمل مسؤولية قبولها، لذلك يطالب المجلس النيابي بالموافقة عليها على رغم ان الهبات عمليا ينبغي ان يقبلها مجلس الوزراء بمرسوم على عكس القروض التي تُعرض على مجلس النواب”.
ولكن ماذا لو رفض لبنان هذه المنحة؟ ما هي التبعات؟ يجيب شمس الدين: “بما أن لا قرار جديا بترحيل السوريين لذا من الافضل عدم خسارة المنحة، مع التأكيد على أهمية مقاربة ملف النازحين من منظور اقتصادي بحت، اي المحافظة على العامل السوري الذي يفيد الاقتصاد، وتطبيق القوانين بحذافيرها خصوصا للنازحين غير الشرعيين”.