هل تنهض بنا الرقمنة نحو الحوكمة الرشيدة؟
في عالم سريع التطوّر، لا نبالغ عندما نؤكّد أهميّة الابتكار والرقمنة وإدماج التقنيّات الجديدة في الإدارة العامّة. فهذه العوامل ليست مجرّد كماليّات، أو تحسينات اختياريّة، بل هي شروط أساسيّة لتحديث هياكل الحوكمة، وتعزيز تقديم الخدمات، وضمان فعاليّة المؤسّسات العامّة وقدرتها على الاستجابة. كما أصبحت ركائز لا غنى عنها في تحويل الإدارة العامّة في كل أنحاء العالم.
إذ بتنا نشهد، ابتداءً من الدول المتقدّمة حتّى الاقتصادات الناشئة، اعتماد الأدوات الرقميّة والممارسات المبتكرة، كذلك إعادة تشكيل طريقة تفاعل الحكومات مع المواطنين، وتقديم الخدمات وإدارة الموارد. لا تتعلّق هذه النقلة النوعيّة بتبنّي أحدث المنهجيّات وحسب؛ بل أصبحت ضرورة أساسيّة لتعزيز مستويات الكفاية، والشفافيّة، وإشراك المواطنين في الحوكمة. وفي بلدٍ مثل لبنان، يحاول أن يتعافى من الضيقات الاقتصاديّة، والكبوات السياسيّة، والمشكلات الاجتماعيّة، والكوارث البيئيّة، التي ضربته تواليًا في السنوات الأخيرة… يبقى السؤال: كيف لنا أن ننهض بطائر الفينيق مجدداً، بجناحَي الرقمنة، والتقنيّات الجديدة؟
في النصف الأخير من القرن العشرين، اجتاحت نقلة نوعيّة عالم الإدارة العامّة متحدّية المعايير البيروقراطيّة التقليديّة، التي كانت تُعاني منها البلاد كافّة، خصوصًا بعد انتهاء الحرب العالميّة الثانية، وفترات التعافي التي تلتها. فأعلنت بدء حقبة جديدة من الحوكمة. وكانت «مبادئ الإدارة العامّة الجديدة» في صميم هذا التحوّل، وهذه الأخيرة تمثّل نظريّة تدعو إلى دمج الاستراتيجيّات الموجَّهة نحو السوق، ودمج ممارسات القطاع الخاصّ في القطاع العامّ أيضًا.
يمكن إرجاع «نشأة الإدارة العامّة الجديدة» الحقيقيّة إلى المملكة المتّحدة البريطانيّة في ثمانينات القرن المنصرم، في أثناء فترة ولاية «المرأة الحديديّة» رئيسة الوزراء مارغريت تاتشر. ففي مواجهة الانتقادات المتصاعدة في شأن عدم كفاية البيروقراطيّة وتضخُّم النفقات الحكوميّة، بدأت حكومة تاتشر سلسلة من الإصلاحات التي هدفت في حينها إلى إدخال مبادئ موجّهة نحو السوق في عمليّات القطاع العامّ. وكان ذلك إيذانًا ببزوغ فجر «الآليّة الوقائيّة الوطنيّة»، وهي فلسفة سَعت فيها الحكومة البريطانيّة إلى إحداث ثورة في الأساليب التقليديّة للحوكمة، وتقديم الخدمات لمواطنيها كافّة.
وبعد هذه التجربة الناجحة، تبنّت دول مثل أستراليا مبادئ الآليّة الوقائيّة الوطنيّة عن طريق إدخال المناقصات التنافسيّة، والتعاقد القائم على الأداء، والموازنة المعتمدة على النتائج. وقد أدّت هذه الإصلاحات إلى زيادة الفعاليّة من حيث التكلفة، والابتكار، ورضى العملاء في تقديم الخدمات، بما يتماشى مع الأهداف الأوسع نطاقًا لتحديث الإدارة العامّة بواسطة الابتكار والرقمنة.
وبعدها، اعتمدت دولٌ مثل نيوزيلندا مبادئ الآليّة الوقائيّة الوطنيّة بتطبيق الميزانيّة القائمة على الأداء، وتفويض سلطة اتّخاذ القرار إلى الوكالات في الخطوط الأماميّة. وقد أدّى هذا التحوّل، في تركيزه على النتائج، إلى زيادة مستويات المساءلة، والاستجابة في تقديم الخدمات العامّة. وفي السطور التالية سنعرض أهمّ ميزات الرقمنة الحكوميّة، وادماج التقنيّات الحديثة في عملها.
إنّ أوّلى ميزات أو ثمار هذه المنهجيّة تبرز في تعزيز الكفاية والفعاليّة، إذ يمكّن الابتكار في الإدارة العامّة الحكومات من تبسيط العمليّات، وإزالة العقبات البيروقراطيّة، وتحسين تخصيص الموارد. فتستطيع الدوائر الحكوميّة بواسطة الرقمنة إتمام المهمات الروتينيّة، ممّا يقلِّل من الأعمال الورقيّة، والأعباء الإداريّة. كما يُمكِّن الابتكار والرقمنة الحكومات من العمل بكفاية وفعاليّة أوسع، وتقديم الخدمات بسرعة ودقّة أكبر، مع تقليل الهدر والتكرار.
على سبيل المثال، تسخِّر مبادرة «الأمّة الذكيّة» في سنغافورة تحليلات البيانات، وأجهزة إنترنت الأشياء، والذكاء الاصطناعيّ لتحسين التخطيط الحَضَريّ، وأنظمة النقل، وخدمات الرعاية الصحيّة. فعزَّز هذا البلد الآسيويّ قدراته على اتّخاذ القرار، وحَسّن من جودة حياة مواطنيه، وذلك عن طريق الاستفادة من متابعة البيانات، وتحليلها في الوقت الفعليّ.
علاوة على ذلك، يسمح برنامج الإقامة الإلكترونيّة في إستونيا لرواد الأعمال في جميع أنحاء العالم، بتأسيس أعمالهم وإدارتها رقميًّا، ممّا يقلِّل من الأعمال الورقيّة، والبيروقراطيّة، ويُعزِّز إمكانيّة الوصول إلى الخدمات الحكوميّة.
من ناحيّة أخرى تُحفِّز هذه الابتكارات الإداريّة مشاركة المواطنين، فتُمكِّن التقنيات الرقميّة أهل البلد من المشاركة بفعاليّة أكبر في عمليّة الحوكمة، ممّا يعزز الشفافيّة، والمساءلة، والثقة في المؤسسات العامّة. وتُتيح التقنيّات الرقميّة فُرصًا غير مسبوقة للحكومات بُغية التفاعل مع المواطنين، وجمع الملاحظات، والمشاركة في إيجاد الحلول.
كما طوّرت إحدى المختبرات في تشيلي منصة «قرِّر سانتياغو» التي تمكِّن المواطنين والمواطنات من اقتراح مشاريع البلديّة، والتصويت عليها، وتخصيص جزء من الموازنة مباشرةً للمبادرات التي يختارها المجتمع. ولا يساهم هذا النهج التشاركيّ في تمتين العلاقة بين المواطنين والحكومة فحسب، بل يضمن تخصيص الموارد العامّة بما يتماشى مع احتياجات المجتمع وأولويّاته.
كذلك، تمكِّن منصات، مثل منصة الشعب الإلكترونيّة في كوريا الجنوبيّة، المواطنين من المشاركة في المناقشات المتعلِّقة بالسياسات، وتقديم العرائض، والتعبير عن آرائهم مباشرة إلى المسؤولين الحكوميّين. وهذا ما يُعزِّز الشعور بالشموليّة، ويمكِّن المواطنين من المساهمة بفعاليّة في عمليّة صنع القرار.
بالإضافة إلى ما ذُكِر، تُحسِّن التقنيّات الرقميّة الخدمات العامّة، ممّا يُسهِّل دمج التقنيّات الجديدة في تقديم الخدمات العامّة في الوقت المناسب، وبطريقة أشدّ تخصيصًا. وقد أحدثت الحلول المبتكرة مثل نظام «أدهار» الهنديّ لتحديد الهويّة البيومتريّة ثورة في تقديم الخدمات، عن طريق توفير هويّة رقميّة فريدة لأكثر من مليار شخص من السكان. فيُسهِّل نظام «أدهار» الوصول السلِس إلى الخدمات الحكوميّة، بما في ذلك مزايا الرعاية الاجتماعيّة، والمعاملات الماليّة، ومخصَّصات الرعاية الصحيّة، وبالتالي الحدّ من الاحتيال، والاستبعاد من الخدمات الأساسيّة. كما تؤكِّد مثل هذه المبادرات الإمكانات التحويليّة للتقنيّات الرقميّة في إضفاء الطابع الديموقراطيّ على الوصول إلى الخدمات العامّة، وتحسين حياة السكان المهمَّشين.
لقد أحدثت الخدمة الرقميّة الحكوميّة في المملكة المتّحدة ثورة في طريقة تفاعل المواطنين مع الوكالات الحكوميّة بجَعل الخدمات الرقميّة مركزيّة عن طريق منصّات سهلة الاستخدام مثل (gov.uk)، فيعمل هذا النهج على تبسيط الوصول إلى الخدمات الأساسيّة مثل الإيداع الضريبيّ، وطلبات جوازات السفر، وتسجيل الرعاية الصحيّة، ممّا يعزِّز تجربة المستخدم ورضاه.
أخيرًا، تضمن هذه التقنيّات الرقميّة الشفافيّة والمساءلة عن طريق تقنيّات البلوكتشين. فتبرز اعتماد تقنيّة سلسلة الكتل أو «البلوكتشين» كأداة قويّة لتعزيز الشفافيّة، والمساءلة في الإدارة العامّة. فعلى سبيل المثال، قلَّل نظام تسجيل الأراضي القائم على البلوكتشين في جورجيا من الفساد والنزاعات على الملكيّة بتوفير سجلاّت شفّافة، وغير قابلة للتغيير لملكيّة الأراضي. وبالمِثل، تهدف «استراتيجية بلوكتشين ٢٠٢٠» في دبي إلى رقمنة جميع المعاملات الحكوميّة على منصّة بلوكتشين، ممّا يعزِّز الثقة، والكفاية، والأمان في العمليّات الحكوميّة. وقد طبّقت مدينة تسوغ في سويسرا أنظمة التصويت القائمة على البلوكتشين، ممّا يوفِّر سجلّات شفّافة، وغير قابلة للتلاعب في العمليّات الانتخابيّة.
أمّا في المشهد اللبنانيّ، فيفرض التحوّل الرقميّ نفسه اليوم كضرورة مُلِحّة في بلدٍ كان يُعرف بكونه مصدر الابتكارات والأفكار العمليّة، خصوصًا أنّ اليوم يحتاج إلى هذه الابتكارات الجديدة التي تتمتّع بدورها المحوريّ في خطّة التعافي، وإصلاح الخدمات العامّة، والقضاء بحجرٍ واحد على عصفورَي البيروقراطيّة المملِّة والفساد المؤسَّساتيّ.
ففي الواقع، نجد أنّ اعتماد التكنولوجيا كمحفِّز حيويّ يمكن أن يُعزِّز الابتكار، ويدعم الاقتصاد الرقميّ في بلد الأرز، ويحقّق الحوكمة الرشيدة، ويصلح الإدارات العامّة في بلدٍ يُعاني فيه القطاع العامّ ومؤسَّساته خطر التهالك، ويطوّرها، ويحدّ من الفساد ويُعيد الأمل للبنانيّين بأنّ القضاء عليه أمرٌ ممكن، يخوّلنا تنقية النسيج اللبنانيّ من شوائبه.
كذلك، نرى أنّ التحوّل الرقميّ في لبنان لا يجب أن يقتصر على رقمنة آليّات العمل، والخدمات الحكوميّة الورقيّة والمعلوماتيّة فقط. فيجب أن يستخدم التكنولوجيا لتحويل الثقافة الإداريّة السائدة، وتطوير أساليب العمل، لتزويد المواطنين، وشركات القطاع الخاصّ تحديداً، ومنظّمات المجتمع المدنيّ عموماً، بخدمات مناسبة، وعالية الجودة وأقلّ تكلفة، وأعلى كفاية.
في السنوات الأخيرة، أطلق مكتب وزير الدولة لشؤون التنمية الإداريّة (OMSAR) «استراتيجيّة التحوّل الرقميّ في لبنان ٢٠٢٠-٢٠٣٠» ديناميكيّة جديدة تهدف إلى تحقيق الأهداف الإصلاحيّة الموضوعة، ومُحاكاة توجّهات وآليّات العصر الرقميّ. وتسعى إلى إصلاح القطاع العامّ، وتنفيذ استراتيجيّة مكافحة الفساد، وتعمل لتنفيذ مبادرة التحوّل الرقميّ التي من شأنها أن تساهم في إنعاش القطاع العامّ، وتلبية تطلّعات المواطنين عند تنفيذها واستدامتها.
ففي العام ٢٠٢٢، قامت الحكومة اللبنانيّة بمراجعة وتحديث مسوّدة الاستراتيجيّة، وتطوير بعض جوانبها لمحاكاة الواقع اللبنانيّ، وصولًا إلى إقرار النسخة النهائيّة من الخطّة العمليّة. وتجدر الإشارة إلى أنّ الركائز الأساسيّة للاستراتيجيّة تتمحور حول احتياجات المواطنين باختلافها. كما تتبنّى هذه الخطّة مقاربة منهجيّة علميّة، وتنفّذ رؤية للحوكمة استجابةً للتحدّيات التي يواجهها بلدنا في أثر الأزمات المتتالية، كما تتضمّن عوامل التمكين التي يمكن أن تعزِّز الاقتصاد الرقميّ في لبنان.
هكذا، يُعدّ الابتكار والرقمنة ودمج التقنيات الجديدة محرّكات لا غنى عنها للتغيير في الإدارة العامّة، حيث تشكِّل المسار المستقبليّ للحوكمة في جميع أنحاء العالم. فعَن طريق تسخير قوّة الابتكار، يمكن للحكومات تقديم الخدمات بطريقة أكثر كفاية، وإشراك المواطنين بطريقة أشدّ فعّالية، وضمان مقدار أكبر من الشفافيّة والمساءلة في عمليّات صنع القرار. وبينما نخوض غمار تعقيدات القرن الحادي والعشرين، لم تكن حتميّة تبنّي الابتكار في الإدارة العامّة أشدّ إلحاحًا من أيّ وقت مضى.
هكذا، رأينا كيف للحكومات أن تلبّي حقّاً الاحتياجات والتوقّعات المتطوّرة لمواطنيها في عالم مترابط وديناميكيّ في شكل متزايد، فقط عن طريق تبنّي التغيير، والاستفادة من الإمكانات التحويليّة للتقنيّات الرقميّة. وتستطيع حينها أن تتكيّف مع التحدّيات المتطوِّرة، وتلبية توقّعات المواطنين، وبناء مؤسَّسات عامّة أكثر مرونة واستجابة.
ختامًا، ما نحتاجه في لبنان اليوم، التكافل لضمان استمراريّة مشروع التحوّل الرقميّ، وأن يحرص كلّ واحدٍ منّا على أن يكون له الدور الفاعل والداعم لضمان أقصى درجات التعاون مع مختلف الجهات المعنيّة لتطوير هذا القطاع، وتحقيق الحوكمة الرشيدة، والإصلاح، وتعزيز الشفافيّة، والمساءلة، وتحسين توزيع الموارد وإدارتها واستعادة ثقة الناس بالدولة وهيئاتها الحكوميّة، ومقدرتها على النهوض بالبلد وقيادته نحو مراتب الدول المتقدّمة، ولِمَ لا؟ أن يكون مصدرًا يشعّ ابتكارًا في المنطقة والعالم، فمَن ابتكرَ الحرف وصدّره، يملك الجينات عينها لابتكار التقنيّات الرقميّة، والحلول العمليّة الذكيّة وتصديرها، بدل أن يصدّر نوابغه إلى العالم!