أزمات لبنان والحاجة للحلول المستدامة
بقلم العميد المتقاعد الدكتور غازي محمود
• باحث اقتصادي
للسنة الخامسة على التوالي يراوح لبنان في مربع الازمة المالية والاقتصادية وتداعياتها، جراء تفاقم الخلاف السياسي بين اطراف السلطة وتحوله الى أزمة نظام تحول دون الوصول الى بلورة حلول مستدامة للأزمات التي تعصف بالبلد واحتواء مضاعفاتها. وتأتي الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان لتزيد من تعقيدات الوضع الداخلي وتجعل من الحلول المنشودة بعيدة المنال، في ظل فراغ رئاسي وحكومة يقتصر دورها على تصريف الاعمال، ما يُطيل من عمر الازمات التي يتخبط فيها البلد.
ولعل أخطر ما يواجهه لبنان ليس حجم الأزمات المستشرية وحسب، بل عدم إيلاء القيمين على الشأن العام عامل الوقت الذي تتطلبه معالجة هذه الازمات الاهتمام اللازم. سيما وأن اربع سنوات انقضت من دون أن تظهر ملامح حلولٍ تسمح بالحد من تداعيات هذه الازمات وتُحدد سُبل مُعالجة أسبابها، فيما تستلزم الحلول فترات زمنية لإعداد الخطط والبرامج ومن ثم تنفيذها. وكل تأخير في مواجهة هذه الأزمات يزيد من تعقيدها ويجعل من الحلول أكثر صعوبة وأعلى كلفة.
وليس من باب المبالغة الحديث عن أزمات يُعاني منها لبنان وليس مجرد أزمة وحسب، فالأزمة المالية والاقتصادية تختصر مجموعة من الازمات التي يُشكل كلٍ منها ازمة قائمة بحد ذاتها. وبقدر ما يجب أن تكون مقاربة هذه الازمات جديدة ومبتكرة يجب أن تكون شاملة ومتزامنة، وذلك بسبب ترابطها والتأثير المتبادل فيما بينها. وأولى المعالجات لا بد أن تكون في وقف ترهل مؤسسات الدولة وتلاشي نفوذها، ذلك انه في استعادة الدولة لدورها الناظم لمختلف الأنشطة هو المدخل لأي حل والضامن لنجاحه.
وفي هذا الاطار يواجه تنفيذ الخطة الوطنية للنهوض المستدام بقطاع الكهرباء في لبنان التي أقرت في العام ٢٠٢٢، وهي الخطة التي سمحت لمؤسسة كهرباء لبنان بإعادة انتاج الكهرباء، تحدياً يتمثل بالسرقات المتتالية لخطوط التوتر العالي التي تتعرض لها شبكة النقل والتوزيع في العديد من المناطق اللبنانية. ويكمن التحدي في استنزاف المؤسسة وحرمانها من وفورات مالية، وفوراتٍ سمحت لها تسديد جزء من التزاماتها تجاه شركات صيانة وتشغيل معامل توليد الكهرباء لا سيما معملي دير عمار والزهراني بالإضافة الى مستحقات شركات مقدمي الخدمات.
وبينما تتطلع مؤسسة كهرباء لبنان الى استثمار الوفورات المالية في تعزيز قدراتها الإنتاجية وزيادة ساعات التغذية، تستدعي السرقات المتتالية لخطوط النقل والتوزيع تأمين خطوط بديلة لإعادة التغذية وتأمين استدامة توزيع الطاقة المنتجة. الامر الذي يتسبب بخسائر لمؤسسة كهرباء لبنان، نظراً لارتفاع أسعار النحاس وباقي مستلزمات الصيانة. مع العلم أن شركات مقدمي الخدمات هي من يتولى إعادة وصل خطوط النقل وصيانتها لحساب المؤسسة، ما يرفع من تكلفة هذه الاعمال.
كما تحول عمليات سرقة خطوط النقل والتوزيع المتكررة دون اعتماد مؤسسة كهرباء لبنان برنامج توزيع محدد يسمح للمستهلكين بمعرفة الأوقات التي يمكنهم خلالها الاستفادة من انتاجها. حيث تحاول المؤسسة الحؤول دون اعمال السرقة من خلال إبقاء توقيت التغذية غير مُعلن، لمنع من تسوله نفسه التعدي على الشبكة العامة من المحاولة. وتتسبب هذه السرقات بانقطاع التغذية عن المنطقة التي تتعرض لسرقة خطوطها، ما يؤدي الى عدم استقرار برنامج التغذية ويحد من عدالة التوزيع.
والتحدي المتمثل بسرقة خطوط النقل والتوزيع يعرقل أيضاً تنفيذ “قانون إنتاج الطاقة المتجدّدة الموزّعة”، والذي يسمح للمستثمرين من القطاع الخاص إقامة محطات لتوليد الطاقة المتجدّدة بقدرة لا تتعدى الـ ١٠ ميغاواط للطاقة الشمسية، و١٥ ميغاواط لطاقة الرياح. على أن يتم نقل الطاقة المنتجة في هذه المحطات إلى المستهلكين من خلال ربطها بالشبكة العامة لمؤسسة كهرباء لبنان، مقابل “رسم عبور” تستوفيه المؤسّسة. وكان مجلس النواب اللبناني أقر القانون الجديد بتاريخ ١٤ كانون الأول / ديسمبر ٢٠٢٣ وحمل الرقم ٣١٨، وذلك بغية تحفيز استخدام الطاقة المتجددة الشمسية منها والهوائية.
كما أن عدم استقرار الشبكة العامة جراء سرقة خطوط النقل والتوزيع يحول دون تفعيل نطام “التعداد الصافي”، الذي ينص عليه القانون ٣١٨ المشار اليه أعلاه، والذي يسمح للأسر المنتجة للطاقة المتجددة ببيع فائض انتاجهم الى المؤسسة. وكذلك الامر بالنسبة للمُنتجين المرخّصين بموجب القانون عينه، حيث تُعرقل مخاطر السرقة استخدامهم الشبكة العامّة لبيع انتاجهم من الطاقة المُولَّدة الى من يرغب من المستهلكين في مختلف المناطق اللبنانية.
وتجدر الإشارة الى أنه ليست السرقات العائق الوحيد امام تنفيذ قانون إنتاج الطاقة المتجددة الموزعة، بل ثمة عائق سببه المماطلة في تعيين أعضاء الهيئة الناظمة لقطاع الطاقة التي اناط بها القانون الجديد (٣١٨/٢٠٢٣) مسؤولية إقرار الجزء الأكبر من حيثيات تنفيذه. وكان قانون تنظيم قطاع الكهرباء رقم ٤٦٢/٢٠٠٢ أقر إنشاء الهيئة الناظمة منذ قُرابة اثنان وعشرون عاماً، فيما حالت المناكفات السياسية تعيين أعضائها لتبقى مهامها بين يدي وزارة الطاقة والمياه.
وقد حددت المادة الرابعة من قانون إنتاج الطاقة المتجددة الموزعة، سبع مهمات تقع على عاتق الهيئة الناظمة لقطاع الطاقة، أهمّها تحديد الأنواع المؤهلة من أنظمة الطاقة لربطها بالشبكة العامة والمواصفات الفنية لأنظمة الطاقة المتجددة، تعيين الحد الأقصى من الطاقة الكهربائية المنتجة المسموح بإدخالها وربطها بالشبكة العامة، وضع نظام التعداد الصافي، تحديد سقف سعر الكيلو واط ساعة، رسوم العبور وطرق الدفع. ما يجعل من هذا القانون بحكم المؤجل حتى تتفق الأطراف المعنية على تعيين أعضاء الهيئة.
ويتبين مما تقدم أهمية انتظام عمل الدولة واجهزتها وفقاً للقوانين المرعية الاجراء، كشرط أساسي لبلوغ معالجة ازمات البلد مقاصدها وتحقيق أهدافها. وانتظام عمل الدولة يبدأ من تقيد القائمين عليها بالاحكام القانونية والعمل بمقتضياتها، وعندها لا تبقى هيئة الا ويُعين أعضائها وخطة إلا وتنفذ من ألفها الى يائها. ذلك أن انحسار دور دولة القانون وتلكؤ مؤسساتها في القيام بمهامها وتلاشي نفوذها، أفسح المجال امام المخالفين للتمادي بمخالفاتهم غير آبهين بعواقب افعالهم وما قد تتسبب به من اضرار على الوطن وابنائه.