بسري… بين مشروع معلّق و”محميّة”.. سدّ أو لا سدّ؟ تلك هي المسألة

 

تقييم المخاطر في لبنان وجهة نظر، والمصلحة العامة وجهة نظر. حتى حقوق الناس، مجرّد وجهة نظر تنخفض أهميّتها أو ترتفع وفقاً لما تقتضيه المصلحة السياسيّة. إقامة سدّ في بسري أو عدم إقامته، ما عاد موضع جدلٍ علميّ بعدما استفاضت الدراسات في التحذير منه. لكنّه تحوّل إلى «كباش» سياسيّ بامتياز بين نظريّتي: تأمين المياه لبيروت تحت أي ظرف، وحماية المنطقة من كارثة.

رسمياً، عُلّق العمل بمشروع سدّ بسري منذ أيلول 2020، وتحديداً في الخامس منه، حين «أبلغ البنك الدولي الحكومة اللبنانية قراره بإلغاء المبالغ غير المصروفة من مشروع سدّ بسري نتيجة لعدم إنجاز البنود التي تشكّل شروطاً مسبقة للبدء بأعمال بناء السدّ». وفقاً لما ذكره البنك الدولي على موقعه الرسميّ.

لكنّ الأخير لم يَبنِ قرار وقف التمويل على معطيات جيولوجية أو إيكولوجيّة أعدّها مختصّون، إنما ردّه الى أسباب تقنيّة ثلاثة: أ- أن الحكومة اللبنانيّة لم تنتهِ من وضع خطة التعويض الإيكولوجي بالشكل المتَّفق عليه. ب- لم تُنجز وضع ترتيبات التشغيل في الوقت المحدّد. ج- لم يلتحق المقاول بالموقع في الموعد النهائي المحدّد لشروعه بالعمل. مما يثير الشك بإمكانية الرجوع عن قرار وقف التمويل، واستكمال المشروع، إذا أصبحت الظروف مؤاتية.

هذا الشك الذي يساور العديد من سكان المناطق المحيطة، تكاد تبدّده أصوات المعارضين السياسيين، والناشطين البيئيين، وحتى القيّمين على المجالس المحلية في البلدات المعنية مباشرة بالمشروع، بالرغم من أن مجلس الوزراء كان قد قرّر إعادة التواصل مع البنك الدولي لإحياء مشروع سدّ بسري في جلسة عقدها في الرابع من آذار 2022، ومن بعدها جاء تصريح وزير الطاقة والمياه بعد جلسة للجنة الأشغال العامة والطاقة والمياه النيابيّة في تشرين الأول 2022 الذي اعتبر فيه أن إعادة التواصل مع البنك الدولي بشأن مشروع سدّ بسري ضرورة لا بدّ منها لسدّ إحتياجات بيروت من المياه.

وفي هذا الخصوص، يقول مفوّض الحكومة السابق لدى مجلس الإنماء والإعمار الدكتور وليد صافي عبر نداء الوطن: «مطلوب من الوزير فياض العودة الى الواقعية. كيف ستستكمل الوزارة مشروعاً كلّ محيطه، بكل تنوعه السياسي، ضدّ إقامته. بالإضافة الى المخاطر البيئية والصحيّة والجيولوجيّة التي قد يسبّبها، وفقاً لعدة دراسات أجراها مختصون. لذلك يمكننا القول إن مشروع سدّ بسري انتهى الى غير رجعة، ولا يمكن لأي مشروع في العالم أن يُكمل عنوة عن الناس».

تأمين المياه لبيروت وإقليم الخروب

يقول النائب بلال عبدالله لـ «نداء الوطن»: «لسنا ضدّ تأمين المياه لبيروت من نهر الأولي، لكننا ضد إهدار هذا الإرث التاريخي والطبيعي والجمالي في مرج بسري. كما أن هناك عدة مصادر للمياه ممكن أن تسدّ حاجة العاصمة، إذا تمّ العمل عليها بشكل صحيح، منها نبع جعيتا ونبع القشقوش وغيرها».

أما عن الآبار الأرتوازية التي حُفرت حديثاً في مرج بسري، فيقول عبدالله: «هي منفصلة تماماً عن مشروع السدّ. فبعدما أثبتت الدراسات وجود كميات هائلة من المياه الجوفية في الحوض، وهي مياه متجدّدة وليست مقفلة، انطلق المشروع بدعم من الصندوق الكويتي. الهدف منه تغطية حاجة إقليم الخروب بالمياه. تزامناً، تمّ إنشاء خزان للمياه في بسابا، وقد ساهم البنك الألماني للتنمية مع مصلحة مياه بيروت وجبل لبنان باستكمال التجهيزات».

وتابع: «إن وجود هذا الحوض المائي الجوفي المُكتشف في بسري يحتّم إعادة النظر بمشروع السدّ لما يشكّل من مخاطر عديدة، منها الانهيارات الجوفية وتسرّب المياه».

محمية بخصائص مختلفة

وكان النائب بلال عبدالله قد تقدّم باقتراح قانون يقضي بتحويل المنطقة المستملكة من مرج بسري ومشاعات القرى المجاورة الى محمية طبيعية، يُمنع استخراج أو نقل أي من حاصلاتها، بما فيها الثمار والأعشاب والرمول وغيرها إلا لغاية البحث العلمي الرامي الى تحسين إيكولوجيا المحمية (وفقاً للمادة الرابعة من اقتراح القانون).

ثم تقدّم النائب جورج عدوان باقتراح قانون مشابه، لا يخرج عن إطار «التنسيق والتواصل الدائم مع اللقاء الديمقراطي»، كما جاء في كلمته خلال الإعلان عن هذا الاقتراح.

لكن في الحقيقة، هناك ثلاثة أنواع من المحميات تتزاحم على طاولات النقاش، لتتربّع في النهاية إحداها على هذا الكنز الطبيعيّ الثمين. فبين المحمية الطبيعية بشكلها المعروف (كتلك الواردة في اقتراحي النائبين عبدالله وعدوان)، وبين المحمية بمميزات خاصة، وبين ما يُعرف بالحمى البلدي، تختلف وجهات النظر.

أما النائبة بولا يعقوبيان، فاقتراح القانون الذي تقدمت به، لا يتعدى توقف كامل الأعمال في منطقة المشروع، وإعادة الأملاك لأصحابها.

بحسب رأي الحقوقيّة والناشطة البيئية أماني البعيني، وهي من مؤسسي الحملة الوطنية للحفاظ على مرج بسري: «يجب توحيد كل الجهود للوصول الى مخطط توجيهي يصنّف أراضي مرج بسري بشكل يحمي الثروات الموجودة، من تنوع بيولوجي وإرث تاريخي حضاري، وفي الوقت نفسه يسمح بإقامة أنشطة زراعيّة واقتصاديّة تتوافق مع مفهوم التنمية المستدامة.

لكن للوصول الى ذلك، يجب إقامة ورشة عمل وطنية، تتضمن حواراً وطنياً علمياً يشارك فيه خبراء متخصصون في المجالات المتعلّقة بالمشروع. فمن غير المنطقي تزنير الأراضي الزراعية الخصبة وحرمان الناس من الاستفادة منها، في حين ممكن لمرج بسري أن يُدرَج على قائمة مقومات الأمن الغذائي الوطني. مما يُحتّم حماية محيطه الحيوي، حتى لا تتأثر المنطقة المحمية بحدّ ذاتها، ويكون ذلك بحماية الأنهار من التلوث، ومنع قطع الأشجار والصيد، وغيرها، بشكل لا يحرم سكان المحيط من حقوقهم الاقتصاديّة».

وتابعت البعيني: «كما يمكن لحوض بسري أن يشكّل مختبراً طبيعياً تستفيد منه الجامعة اللبنانية والكليات الزراعية. لذلك يجب ألا يكون مجرّد محميّة، بل محمية بمواصفات خاصة تتوافق مع واقعها، وهذه التوفيقة المقترحة لا يمكن حمايتها إلا بقانون خاص».

هذا الاقتراح، ليس مستبعداً من الحزب التقدمي الاشتراكي، إذ أضاف الدكتور وليد صافي، «أنه من المفيد مناقشة جميع الأفكار للتوصل الى مفاضلة ما بين إقامة محمية طبيعية، أو محمية بسمات خاصة تلحظ استثمار الأراضي الزراعية فيها، أو إعادة الأملاك لأصحابها بالشكل الذي يتوافق مع القانون».

أما الحمى البلدي، فلا يمكن أن يتحقّق إلا في إطار خطة مشتركة بين جميع البلديات المعنيّة، بعد استصدار المراسيم أو القوانين اللازمة، مما يتيح تحقيق شراكات بين القطاعين العام والخاص ضمن شروط محدّدة (استثمارات غير مضرّة بالبيئة).

في جميع الحالات، لا يمكن تعديل وجهة استخدام الأراضي الواقعة ضمن نطاق مشروع سدّ بسري إلا بعد تعديل المرسوم رقم 2066 تاريخ 27/5/2015، وإلغاء جميع الأعمال المتعلقة بالسدّ رسمياً. وتبقى الطريقة الأمثل لإدارة مرج بسري، هي بتشكيل مجلس إدارة تتمثل فيه جميع الوزارات المعنية والبلديات التي تتشارك خراجاتها المشروع.

ما مصير المالكين وقد تبخرت أموالهم؟

بحسب الدكتور وليد صافي: «لحظت الدراسة المعدّة من قبل الحكومة اللبنانية، كما شروط الاستملاك، تأمين بدائل للناس الذين استُملكت أراضيهم، خصوصاً أن معظمهم يعمل في الزراعة، وهي تشكّل للكثيرين منهم مصدر الدخل الوحيد. لكنهم لم يحصلوا إلا على بدلات مالية تبخَّرت بسبب الأزمة الاقتصاديّة. وما بقي منها، ما عاد له وجود إلا دفترياً في المصارف. فانقطع مدخولهم وبالتالي باتوا بلا أرض ولا عمل».

وقد لحظ العقد مع البنك الدولي خطة التعويض الإيكولوجي، وهي بحسب موقعه الرسمي: «جزء من تقييم الأثر البيئي والاجتماعي المطلوب إعداده في إطارالمشروع». ثم استثنى من قرار الإلغاء، بعد ذلك، «الخدمات الاستشارية والأشغال المتعلقة بالإجراءات الوقائية البيئية والاجتماعية»، بالإضافة الى مصاريف أخرى.

هذا التنوع الإيكولوجي الذي يشمل التربة والنبات والحيوان، كان بيئة حاضنة للاقتصادات الفردية الصغيرة التي تعتمد على الزراعة، وقد وعدت الحكومة اللبنانية أصحاب العلاقة بتأمين بدائل، لكن ذلك لم يتحقق على أرض الواقع.

يقول علي مراد لنداء الوطن، وهو أحد كبار الملاكين في منطقة عماطور العقارية من مرج بسري، أن الحكومة سدّدت بدل استملاك قيمته أربعون ألف ليرة لبنانية عن المتر المربع الواحد (وقد اختلفت قيمة البدل بين منطقة وأخرى)، ثم حلّت الأزمة المالية على لبنان، فتدنت قيمة المبلغ في أقل من ثلاث سنوات الى أقل من نصف دولار للمتر المربع، لتسجن في آخر المطاف في المصارف المحليّة على ذمة الانهيار.

وفق البنك الدولي، أنجزت الحكومة اللبنانية، حتى تاريخ إلغاء تمويل المشروع، 99.8% من عمليات استملاك الأراضي، وقد تلقى 861 مالكاً تعويضات استملاك بلغت 155 مليون دولار أميركي. أي ما يعادل: 232.5 مليار ليرة لبنانية، لأن التحويلات تمّت حينها بالعملة الوطنية. أما اليوم، وقد بلغ سعر صرف الدولار 89500 ليرة لبنانية، فإن هذا المبلغ تقلّص في حسابات المالكين ليصبح بحدود المليونين وستمئة ألف دولار أميركي.

وبذلك يكون المالك القديم في مرج بسري قد خسر أرضه ومن ثم قيمة ماله، ومن بعدها كل ما تبقى منها في المصارف. رغم ذلك، وبحسب مراد، لم يحصل أي تحرك من قبل المالكين يمكن البناء عليه، أقلّه حتى اليوم، والجميع بانتظار البتّ النهائي بالمشروع، ليبنى في حينها على القوانين التي تحكم الاستملاك.

وللعلم، أن قانون الاستملاك رقم 58 تاريخ 29 أيار 1991، وجرّاء التعديل الأخير بتاريخ 21/12/2006، تم إلغاء نصّ المادة 33 منه واستعيض عنه بغيره، نذكر منه: «للإدارة أن تقرر استعمال العقار المستملك في مشروع آخر أُعلن من المنافع العامة غير المشروع الذي جرى من أجله الاستملاك، وعندما تقوم بالاجراءات القانونية اللازمة في هذا الخصوص. أما إذا قرّرت الإدارة العدول عن المشروع، فيحقّ لمالك العقار أو لخلفائه العموميين أن يطلبوا استرداده خلال مهلة سنة من تاريخ إبلاغهم العدول بالطريقة الإدارية».

في الختام تقول الناشطة الحقوقية أماني البعيني : «الأهم من المفاضلة بين إعادة الأراضي لأصحابها، تحويلها الى محمية، هو إنقاذ مرج بسري. ولأن الدولة اللبنانية قد حصلت على ثروة حقيقية لا تتناسب مع قيمة الأموال التي دفعتها كبدلات استملاك، عليها إعادة النظر بالتخمينات، وبالتالي التعويض على المالكين في حال قرّرت الاحتفاظ بهذه الأراضي.

لكن ما بات مؤكَّداً، وخصوصاً بعد زلزال تركيا الأخير الذي شكّل جرس إنذار للجميع، أن مجرّد التفكير في إعادة إحياء مشروع سدّ بسري بات ضرباً من الجنون».

Leave A Reply

Your email address will not be published.