أين أصبح التدقيق في المصارف… ومن سيموّل العمليّة؟
عندما وقّع لبنان الاتفاق المبدئي مع صندوق النقد الدولي في نيسان 2022 كان من بين بنوده الأساسية الشروع في إجراء تدقيق محاسبي شامل لموجودات وأوضاع المصارف الأربعة عشر الكبرى، كل على حدة، عبر تكليف شركة دولية مرموقة القيام بهذه المهمة. ومبتغاه في ذلك، امتلاك داتا أكثر شفافية، وأدق صدقية، لأوضاع مجموعة مصارف مختارة تشكل 80% تقريباً من إجمالي موجودات وودائع القطاع المصرفي اللبناني برمّته.
يؤسس هذا التدقيق، إن تمكّن صندوق النقد من دفع الدولة اللبنانية والمصارف إلى إنجازه وفق القواعد المحاسبية التي يطلبها والمعتمدة دوليا، لبناء رؤية سليمة وعلمية لدى الصندوق، بما يسمح له مستقبلاً إبداء الرأي والمشاركة في صنع القرارات أو التشريعات التي ستُعتمد في مشروع تقليص عدد مصارف لبنان.
ولكن بين حجّتي الداتا وبناء “فكرة” عن القطاع، يفتقر مشروع التدقيق إلى الحماسة اللبنانية، خصوصاً من أهل القطاع المصرفي الذين ينتظرون منذ بداية الأزمة، مبادرة الدولة إلى إقرار خطة واضحة للقطاع مع إقرار قوانين الكابيتال كونترول ومشاريع قوانين ذات صلة تغفو في أدراج المسؤولين.
عدا عن ذلك، فإن مصارف لبنان تعتمد كل على حدة شركة تدقيق محاسبية مستقلة، تقوم بعمليات تدقيق مستدامة على مدار السنة. وغالبية تلك الشركات، دولية أو لبنانية، تمارس أنشطة تدقيق محاسبية محلياً وخارجياً، وتقاريرها معتمدة لدى مصارف مركزية عربية وعالمية، فيما المطلوب وفق بعضهم، أكثر من أي وقت مضى العمل على مصير الودائع وحمايتها من المشاريع المعلنة والمضمرة لإلغائها، إما من خلال هيركات مباشر، أو من خلال قوانين يقترح بعضها 20 أو 30 سنة لإعادتها.
إلى ذلك يطرح السؤال عن الكلفة والتمويل الذي يُقدّر بـ6 ملايين دولار، والجهة التي ستتكفل به، وهو ما لا ترى فيه المصارف مشكلة يمكن الوقوف عندها، إذ إن السؤال الأهم كيف يمكن إجراء تدقيق بموجودات المصارف فيما 90% من ودائعها موجودة في مصرف لبنان، وتالياً كيف يمكن معرفة ما تملكه المصارف من موجودات في غياب خطة واضحة لرد الودائع.
“النهار” سألت محامي جمعية المصارف أكرم عازوري عن مصير خطة إعادة هيكلة المصارف وتكليف شركة تدقيق عالمية، فأكد أن “أي خطة أفضل من لا خطة، شرط أن لا تضع في أولوياتها عدم القدرة على رد الودائع”. ويبدو واضحاً لدى عازوري ومعه المصارف أن الدولة غير قادرة على رد الودائع حالياً، ولكن وفق ما يقول “على الاقل يجب عليها أن تؤكد أنها ستردّها عندما تتوافر لديها الإمكانيات لذلك، إذ من غير المقبول لدولة تتمتع باقتصاد حر وتسعى الى استقطاب مستثمرين جدد أن تتحدّث عن نيّتها شطب ودائع”.
أما بالنسبة لتقييم المصارف، فيسأل عازوري “كيف يمكن إجراء تقييم للمصارف إن كانت 90% من موجوداتها في مصرف لبنان؟ والأهم أن على الدولة أن تقدّر استناداً الى إمكانياتها ماذا يمكن أن تردّ من ودائع ووفق أيّ وتيرة لإنهاء الأزمة النظامية وبعدها يمكن تقييم المصارف، فكيف يمكن تقييم موجودات المصارف من دون معرفة ماذا سيبقى من موجودات لديها”. وأكد أن “المصارف لن تتأخر في المساهمة بأي خطة متكاملة ومن ضمنها دفع تكاليف شركات التدقيق شرط أن تبدأ بتأكيد احترام الودائع، وردّ ما أخذته الدولة عندما تسمح لها الظروف بذلك”.
وللتذكير فقد تقدّم ثلاثة نواب هم مارك ضو، وضّاح الصادق وميشال الدويهي، بسؤال إلى الحكومة بشأن تقييم أوضاع المصارف، وأتت الإجابة من مصرف لبنان بصفحة واحدة موقعة من رئيسة لجنة الرقابة وحاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري فيها جدول بميزانيات مجمّعة للمصارف (20 بنداً موزعة على مطلوبات وموجودات).
أحد أصحاب المصارف المشمولة بطلب صندوق النقد التدقيق في موجوداته، أكد لـ”النهار” أن “موضوع التدقيق أمر تفصيلي صغير أمام أهمية الاتفاق على خطة واضحة لإعادة هيكلة المصارف وإقرارها، إذ من غير الواضح حتى اليوم ماذا سترد الدولة والمصرف المركزي من أموال وودائع للمصارف، وتالياً معرفة من من المصارف باستطاعته الاستمرار أم لا. فالخطة مطلوبة أولاً وعلى أساسها تُكلّف شركة تدقيق”. أما بالنسبة لتمويل كلفتها، فأوضح مصدر أنها “ليست بالمشكلة الكبيرة، إذ يمكن عند إقرار خطة لاسترجاع الودائع وضع شرط تمويل التكلفة من المصارف القادرة على الاستمرار بالعمل، مع الأخذ في الاعتبار أن المصارف ملزمة بشركتين عالميتين للتدقيق بموجوداتها. وتالياً لا مشكلة للاتفاق مع شركات أخرى للتدقيق”.
المشكلة الأساسية في رأي المصدر هي في “الاتفاق على خطة لرد الودائع، وتحديد مسؤولية الدولة ومصرف لبنان والمصارف في ردّها، وماذا ستدفع الدولة من سندات اليوروبوندز، وما هي قيمة الودائع التي يمكن ردّها فوراً، وكم ستخصص لصندوق استرداد الودائع المقدّرة بنحو 82 مليار دولار… وعلى أساس كل هذه المعلومات يصار الى الاستعانة بشركات تدقيق”.
وفي السياق عينه، شدد المصدر على الدور الأساسي للجنة الرقابة على المصارف في إعادة هيكلة القطاع، فالعمل الأساسي سيكون على عاتقها، إذ هي التي ستقرر ما إن كان بإمكان المصارف الاستمرار أم لا”.
ماذا أبلغت المصارف ميقاتي؟
موضوع إعادة هيكلة المصارف وغيره من القوانين الإصلاحية وفي مقدمها “الكابيتال كونترول”، إضافة الى ما طرأ من مستجدات مصرفية وآخرها الدعاوى القضائية على المصارف ومصرف لبنان في الخارج، وأثرها على أموال المودعين من خلال صرف ملايين الدولارات على تكليف محامين لمواجهة هذه الدعاوى، كل هذه الملفات حملها وفد من جمعية المصارف الى رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي الذي أكد أهمية التشريع لمعالجة كل ما طرح في اللقاء.
محامي جمعية المصارف أكرم عازوري أوضح لـ”النهار” أن أعضاء الجمعية أكدوا لرئيس الحكومة وقوفهم الدائم مع السلطة اللبنانية في أي إجراء تتخذه للخروح من هذه الأزمة النظامية انطلاقاً من حقيقة أن الجميع في مركب واحد. فهمّ الجمعية الأول وفق ما أوضحوا لميقاتي هو المحافظة على مصلحة المودعين والمساواة في ما بينهم في انتظار حل الأزمة النظامية، التي تبدأ بتبنّي الإصلاحات التي نصح بها صندوق النقد لجهة مالية الدولة، وكذلك سائر الإصلاحات التي تنصح بها الجهات الدولية شرط أن تكون كل التدابير تراعي النظام القانوني اللبناني الذي يقدّس الملكية الفردية. وأكدوا له أنه “على الرغم من أهمية كل الإصلاحات التي تنصح بها المراجع الدولية، تبقى الدعامة الأساسية لاستعادة الازدهار اللبناني واستعادة ثقة المستثمرين من مودعين لدى المصارف أو مستثمرين فيها، هي مبدأ فصل السلطات واستقلالية مصرف لبنان المطلقة عن الدولة اللبنانية، واحترام قانون النقد والتسليف الذي يمنع الدولة من الاستدانة من مصرف لبنان إلا في حالات استثنائية جداً. كذلك من الضروري أن تتعهد الدولة برد كل ما استدانته من مصرف لبنان إضافة الى الخسائر التي أوقعتها فيه سياستها، عندما تسمح لها إمكانياتها بذلك.