رياض سلامة: أذكى من غيره؟!

 

يعتقد كثيرون أن رياض سلامة هو من أذكى الأشخاص الذين مرّوا على حاكمية البنك المركزي في لبنان نظراً للسياسة التي أتبعها والتي لا زالت معتمدة حتى اليوم من قبل مسؤولي البنك، كما من أركان الحكومة اللبنانية الذين استماتوا في الدفاع عنه واعتبروه ضابطاً كبيراً لا يجوز تغييره أبان الحرب.

وقد سانده هؤلاء حتى لحظة مغادرته البنك بعدما بلغ سن التقاعد، وبعدما شعر هو وهم بالعجز عن التمديد أو التجديد له وسط غضبة شعبية عارمة عمّت البلاد استنكاراً لدوره المخادع الذي أخفى الحقائق عن الناس وأفسد القطاع المصرفي ولوّث القطاع الإعلامي وتلاعب بودائع اللبنانيين كما يحلو له، وكما ينسجم مع مصالحه ومصالح الشبكة التي ينتمي إليها، سواء الشبكة العائلية الصغيرة المحيطة به أو الشبكة الكبيرة التي تضم ما هبّ ودبّ من مسؤولين مستفيدين يمثلون مواقع متقدمة في الدولة والقطاع الخاص، الى جانب قضاة ورجال دين وسياسيين وعسكريين وأصحاب نفوذ.

وبفضل هذه الشبكة ونفوذها وخبرتها في التضليل وتزييف الحقائق استطاع رياض سلامة ان يخدع معظم الناس ردحاً من الزمن، لكنه لم يستطع أن يخدع كل الناس كل الوقت، فكان يستعين بكبار أركان الدولة لإسكات العديد من الأصوات التي كانت ترتفع منبهة ومحذّرة من تداعيات سياساته وممارساته على المصارف كما على المال العام والخاص. وكان الاسكات يتوسل أساليب الترغيب والترهيب فضلاً عن تغييب الأرقام الحقيقية واستبدالها بأرقام مصطنعة أو متعددة لإثارة البلبلة والحيرة بين الناس. ومن أهم الأحداث التي وقعت في ذلك النطاق مبادرة رئيس لجنة العدل النيابية النائب جورج عدوان عام 2016 للتنديد بالهندسات المالية ومطالبة حاكم البنك المركزي المثول أمام المجلس النيابي لمساءلته عن حقيقة هذه الهندسات. ولكن تلك المبادرة التي أضاءت على الجرح الكبير سرعان ما تبخّرت بعد أن رفض رياض سلامة الدعوة وبعدما بادر كبار المسؤولين لاحتواء الموضوع و«حرمان» النائب عدوان من متابعة مبادرته التي كانت لتغيّر الكثير من الأمور لولا دفنها في بدايتها.

وهنا لا يمكن الاعتداد، كما يحلو للبعض، بذكاء رياض سلامة «الخارق» لتبديد الانتقادات وردّ الاتهامات التي كانت تنهال عليه في مراحل مختلفة ومن مواقع متعددة. فالفضل يعود في ذلك الى أولي أمره في لبنان وإلى هيئات دولية، أميركية في الغالب، كانت تسلّمه جرس البورصة في نيويورك وتشمله بحمايتها وسطوتها مقابل امتثاله الكامل لمطالبها التي كانت تتناول السياسات والقرارات كما داتا المعلومات المودوعة في الخزائن والحواسيب.

 

لا ننكر ان رياض سلامة كان ذكياً، لكنه استخدم ذكائه ضد مصالح المواطنين والمودعين كما الدولة التي إستهان بها وبمجلس نوابها ومجلس وزرائها وسلطتها القضائية. فقد كان يتعالى على الناس، خاصة الذين يقدم لهم «خدمات»، إذ كان يعتبر نفسه المرشح الأول لرئاسة الجمهورية وإن أخفق في رصد مناورات سياسيين أوحوا له بذلك ليضمنوا تجاوبه مع طلباتهم الفاحشة. وعندما تفتح الدفاتر غداً على يد قاض حي الضمير مخلص لبلده وشعبه وقسمه سنكتشف أن الحاكم «المتواري» عن الأنظار تحت سمع وبصر مسؤولين نافذين في كل السلطات، سنكتشف هباته الأسطورية لمجموعة من كبار السياسيين والمصرفيين تحت عناوين مختلفة كالقروض الاسكانية أو الهندسات المالية أو سواها من الألاعيب المالية التي يتقنها عتاة الرأسماليين والمصرفيين ومن لفّ لفّهم.

هؤلاء كلهم لم يجرأوا على مساءلته خلا بعض قضاة حاولوا ويحاولون حماية ميزان العدالة رغم عراقيل وعقبات تقطع عليهم الطريق على كل مفترق أو منحنى.

وعندما تحرك القضاء في خمس دول أوروبية ملاحقاً رياض سلامة إثر وضع اليد على وثائق وعلميات مصرفية تدينه وتستدعي القبض عليه ومحاكمته هبّت الدولة العميقة في لبنان لتبسط خيمة السيادة حوله مدّعية انها الأولى والأحق في محاكمته طالبة من الدول الأوروبية إيداعها الملفات ذات الصلة لا لتستعين بها جلاءً للحقيقة ومتابعة لمصالح الناس، إنما لمصادرتها وإغلاق الأدراج عليها في أغرب عملية قضائية سياسية شهدها هذا القرن مما نال من سمعة الدولة ومؤسساتها المختلفة وجعل لبنان أضحوكة أمام الرأي العام العربي والدولي الذي يتندّر كيف أن بعض المسؤولين اللبنانيين المثقلين بالمال والذهب والطائرات الخاصة يلفّون العالم سعياً وراء هبات ومساعدات يتوسلونها من دول وهيئات لم تعد تريد أن تسمع بشكاوى أو طلبات الشخصيات اللبنانية «المعتبرة» التي طق شرش الحياء لديها منذ زمن بعيد.

وإزاء المجزرة المالية والاقتصادية التي ارتكبتها الفئات الحاكمة التي تفاخر برياض سلامة مديراً لأعمالها ومدبراً لحساباتها أنتظر البعض مجموعة خطوات من هذه الفئات لتحديد الخسائر ووقف التداعيات وإجراء بعض الإصلاحات كما فعلت السلطات بعد أزمة انترا عام 1966. لكن هذه الفئات المنتشية بأرباحها، المتشبثة بمواقفها، لم يعد لديها من همّ سوى حماية الذي أخفق في حماية أموال الدولة وأموال المودعين، ولم يعد لها من مهمة سوى اصطياد فرص التصحيح والإصلاح كي يبقى العبء على المواطن الذي تحمّل خسارة الأمس ويتحمّل ظلم اليوم المثقل بالاقتطاعات المصرفية والضرائب والرسوم الحكومية فيما الإعفاءات تنهال على أصحاب الثروة والنفوذ والمعتدين على الأملاك البحرية والنهرية والبلدية.

الخلاصة أن رياض سلامة ليس وحده توغل في جيوب الناس وخزينة الدولةـ، بل هو شريك نافذ في شبكة حاكمة ثرية بمال الغير، قوية بالتضليل الذي تمارسه على أبناء البلد اللاهثين وراء رغيف الخبز وقسط المدرسة وحبة الدواء. والحقيقة انه لو كان أذكى من غيره لتمثل بالحاكم الراحل الدكتور ادمون نعيم عندما فضّل مقاومة السلطة التي ينتمي إليها على التفريط بحصانة البنك المركزي وأموال الدولة.

ان هذه الشبكة الاقطاعية الاحتكارية التي هجّرت اللبنانيين الى الخارج فقدت حسّها الإنساني منذ امتلأت جيوبها بأموال الفقراء والجياع فأضحت كتلة متهالكة لا يرجى منها خيراً، والأحرى بها مغادرة كراسيها التي هزلت من فرط ما استخدمت لصرف النفوذ والاستهتار بحقوق الناس.

وفي الختام لا مجال لمناشدة أحد، فالكل يعرف واجباته إزاء الأحوال القائمة وما يجري من ممارسات تسيء لسمعة البلاد وسيادتها وكرامة أهلها. وتبقى نقطة البداية ان يتحرك الناس لاستعادة حقوقهم واموالهم مهما كانت الصعوبات والعقبات، وأن يتحرك القضاة وفاء للعهد الذي قطعوه أمام أنفسهم وأمام رئيس الجمهورية لإعلاء راية القانون والحفاظ على أموال الدولة والذود عن حقوق المواطنين وممتلكاتهم وودائعهم التي تذوب أمام أنظارهم.

* وزير سابق

Leave A Reply

Your email address will not be published.