“ثقوب” هدر كهربائية في “منخل” المستشفيات الحكومية
في التفاصيل، أصدرت مؤسسة كهرباء لبنان الشهر الماضي بياناً تطالب فيه كافة مؤسسات القطاع العام، وبالتالي المستشفيات الحكومية ضمناً، تسديد فواتير الكهرباء المستحقة. ذلك بعد أن وصلت القيمة الإجمالية لفواتير استهلاك الكهرباء من قِبَل الإدارات تلك إلى أكثر من 107 ملايين دولار سنوياً. وطلبُ التسديد جاء تحت طائلة اتخاذ تدابير ليس أقلّها قطع التيار الكهربائي عن الجهات المتخلّفة عن الدفع. وكون غالبية المستشفيات الحكومية عاجزة عن تسديد فواتيرها، جاء الحلّ – البدعة من خلال حصول كلّ منها على سلف خزينة من وزارة المالية، في مخالفة فاضحة وصريحة لقانون المحاسبة العمومية.
فبحسب الأرقام التي حصلت عليها «نداء الوطن» من وزارة المالية، بلغت قيمة السلف غير المسدَّدة للرواتب والتعويضات والمساعدات الاجتماعية للمستشفيات الحكومية للعامين 2022 و2023 حوالى 682 مليار ليرة. أما سلف الكهرباء لكافة المؤسسات الحكومية، ومن ضمنها المستشفيات، فتخطّت خلال السنوات الأخيرة 6500 مليار ليرة. سياسة «الهروب إلى الأمام» التي تبدع الدولة في انتهاجها تطرح الكثير من التساؤلات: كيف يمكن منح سلف جديدة للمستشفيات الحكومية قبل تسديد السلف السابقة المتراكمة؟ وهل يُعقل أن يعالَج الهدر الحاصل داخلها من خلال إعطاء سلف مالية بدلاً من إيجاد حلول جذرية لسدّ مزاريب التبذير والتبديد؟
مرحبا قانون
بحسب المادة 203 من قانون المحاسبة العمومية، تُعرّف سلفات الخزينة على أنها إمدادات تعطى لتموين مستودعات الإدارات العامة بلوازم مشتركة بين أكثر من إدارة واحدة، أو لشراء مواد قابلة للتخزين ومعدَّة للاستعمال في سنة مالية جارية أو لاحقة، كما لتغذية صناديق المؤسسات العامة والبلديات والصناديق المستقلة المنشأة بقانون. كما نصّت المادة 204 من القانون نفسه على ضرورة تأكُّد وزير المالية من قدرة الجهة المستلِفة على إعادة السلفة نقداً ضمن المهلة المحدَّدة لتسليمها، وتعهُّد تلك الجهة برصد اعتماد بقيمة السلفات في موازنتها لتسديدها ضمن المهلة المحددة.
من هنا، تُعتبر كافة السلف الممنوحة سابقاً إلى المستشفيات الحكومية، بما فيها سلف الكهرباء التي أقرّت الشهر الماضي، مخالِفة للقانون. في هذا السياق، ذكّر مدير المحاسبة السابق في وزارة المالية، الدكتور أمين صالح، في حديث لـ»نداء الوطن» بأن مسألة الكهرباء هي مسألة مزمنة ووطنية بامتياز. «حين كنت أتولّى المراقبة المالية على مؤسسة كهرباء لبنان من قِبَل وزارة المالية، وتحديداً في آب 2003، رفعت كتاباً إلى وزير المالية آنذاك، فؤاد السنيورة، الذي رفعه بدوره إلى مجلس الوزراء. قلت وقتها إنه يقتضي معالجة أزمة الكهرباء بمقاربات جديدة ومختلفة عن سابقاتها. وهذا الكلام مدوّن لكن، للأسف، لا تزال المعالجة كما هي حتى اليوم. فإمّا أن يرفعوا التعرفة أو أن يلجأوا إلى سلف خزينة».
وإذ لفت صالح إلى أن أكثر من 35% من الطاقة المنتَجة هي طاقة مسروقة وغير مفوترة، وأن 10% من المواطنين لا يسدّدون الفواتير، إضافة إلى أن 15% من الهدر الفني سببه الشبكات القديمة، شدّد على أن الحل لا يكون إلّا من خلال مكافحة الهدر ومنع المواطنين بكافة فئاتهم من سرقة التيار الكهربائي، كما إعادة النظر بالتعرفة. «تقوم الدولة بتمويل مؤسسة كهرباء لبنان بسلف خزينة مخالِفة للمواد 203، 204 و205 من قانون المحاسبة العمومية. لكن المؤسسة مسروقة ومنهوبة، فمن أين لها أن تعيد تسديد هذه السلف؟ يجب القيام بمقاصة بين سلف الخزينة التي منحتها الدولة للمؤسسة، وبين الديون التي للأخيرة على المؤسسات العامة، ومن ضمنها المستشفيات الحكومية. فتتحمّل الخزينة قيمة الفرق الناتج عن السنوات السابقة وتدخله في قطوعات الحسابات». لكن يبدو أن الدولة تتهرّب من تحمّل هذه النفقات كي لا تزيد من عجز الموازنة. لا بل هي تلجأ، بدلاً من ذلك، إلى مزيد من السلف التي تخطّت حتى العام 2019، بحسب تقرير ديوان المحاسبة، 7500 مليار ليرة، رغم أن كافة المصادر تشير إلى أن الأرقام الحقيقية أعلى من ذلك بكثير.
تسليف وهدر
بالعودة إلى المستشفيات الحكومية، تقول مصادر مطّلعة إن سلف الخزينة تتراكم في حسابات الأخيرة كونها عاجزة عن تسديدها، لتسجّل هذه المبالغ كدين على كلّ مستشفى لحساب الدولة. «جميعها مبالغ سوف تسدَّد من جيب المواطن في ظلّ غياب أي نوع من المحاسبة أو الملاحقة من قِبَل الدولة. والأخطر من ذلك هو الحديث عن زيادة رواتب القطاع العام واقتراح قانون تعويض الخدمة بموجب سلف خزينة. كلّ هذا يأتي في ظلّ تكتُّم تامّ لوزارة المالية عن مبالغ السلف التي أصدرتها خلال فترة عملها كحكومة فعلية أو حتى خلال فترة تصريف الأعمال. فمن حقّ المواطن معرفة قيمة السلف ولأي جهات خُصّصت وكيف سيتمّ تسديدها، إن لم يكن على حساب الشعب اللبناني». واقع لا بدّ وأن يفتح من جديد ملف التوظيفات غير القانونية في المستشفيات الحكومية حيث تبيّن، بحسب المصادر نفسها، أن قرابة 5500 وظيفة غير قانونية جديدة سُجّلت في القطاع العام بعد العام 2017، أي بعد صدور قرار إيقاف التوظيف في القطاع العام.
«نغمة» التوظيفات العشوائية في المستشفيات الحكومية تعود إلى العام 2004 بعد أن نشطت تعيينات «شراء الخدمة» من خارج مباريات مجلس الخدمة المدنية. والتوظيفات غير القانونية التي حصلت بعد العام 2017 زادت الطين بلّة. عندها قام التفتيش المركزي بمسح شامل بهدف توقيف تلك التوظيفات والإبقاء على القانونية منها، كما أرسل نسخة من تقريره إلى ديوان المحاسبة وبقي مصير الملف مجهولاً مذّاك. «أكثر من 50% من موازنات المستشفيات الحكومية مخصّصة للرواتب والأجور، في حين ينصّ مرسوم تحديد ملاك المؤسسة العامة التي تتولى إدارة المستشفيات الحكومية رقم 5559، وتحديداً في المادة السادسة منه، على ألّا يتعدّى إجمالي الرواتب والأجور وملحقاتها من تعويضات ومكافآت واشتراكات الضمان الاجتماعي وغيرها من البدلات نسبة 35% من إجمالي نفقات المؤسسة. لكن من يضمن استمرارية المستشفى إن لم يجرِ توظيف جماعة الجهة السياسية المتحكّمة بالمنطقة؟»، تتساءل المصادر عينها. وهذا سؤال استطرادي: أين التفتيش المركزي وديوان المحاسبة ومجلس الخدمة المدنية من متابعة ملف المسح الشامل والحدّ من الفساد بدلاً من اللجوء إلى سلف مهدورة تسدَّد من حساب المواطن؟
«مثالٌ» يُعمَّم
بعد أن أرخت الأزمة الاقتصادية بظلالها الثقيلة على كافة المستشفيات الحكومية، تقدّم معظم الممرّضين باستقالاتهم كما أقفلت أقسام بكاملها نتيجة تراجُع أعداد المرضى، من جهة، وعجز المستشفيات عن تأمين كامل الخدمات الصحية والطبية كما صيانة الآلات والمعدّات. ففي مستشفى صيدا الحكومي، مثلاً، توقّف العمل بالمنظار وصُوَر الأشعة لعدم القدرة على إجراء التصليحات اللازمة. وبالفعل، كشف مصدر إداري من داخل المستشفى لـ»نداء الوطن» أن معظم الممرّضين قد غادروا المستشفى في حين جرى إغلاق عدد كبير من الأقسام. «يدخل المستشفى يومياً مريضان أو ثلاثة كحدّ أقصى، قسم كبير منهم من مرضى الأونروا (وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين)، أي من الجنسية الفلسطينية، في حين لا يزال عدد الموظفين فيه حوالى 180 موظفاً، معظمهم من الإداريين. فهناك خمسة محاسبين للفوترة فقط، في حين أن العمل شبه متوقّف»، بحسب المصدر. يذكر أن معظم المستشفيات الحكومية قد ألغت عقودها مع الأونروا كونها عقوداً خاسرة حيث تصل فيها تعرفة الاستشفاء إلى 35% أقلّ من تعرفة وزارة الصحة، بينما لا يزال مستشفى صيدا الحكومي مثابراً على تجديد العقد ومعالجة المرضى الفلسطينيين من مال وزارة الصحة اللبنانية، وعلى حساب المرضى اللبنانيين.
نصّت المادة الخامسة من المرسوم رقم 5559 على ألّا يزيد عدد العاملين في المستشفى الحكومي عن 2.2 موظف للسرير الواحد، بمن فيهم المدير أو المدير العام ورؤساء الوحدات والأطباء العاملين برواتب. كذلك، يجب ألّا يقلّ العدد الإجمالي للممرّضين ومساعدي التمريض عن معدّل ممرّضة لكل سرير. «في عملية حسابية بسيطة، وبعد إغلاق أكثر من نصف الأقسام في مستشفى صيدا الحكومي، يقدَّر عدد الأسرّة حالياً بـ60 سريراً. وهذا العدد يستلزم 132 موظفاً (60×2.2 ) بينما لا يزال عدد الموظفين 180. ثم أن هؤلاء يتقاضون رواتبهم كما الزيادات دون أن يقوموا بأي عمل يذكر، مع التذكير بأن توظيفهم كـ»شراء خدمات» غير قانوني أساساً»، ودوماً بحسب المصدر.
منذ العام 2010 والمطالبة مستمرّة بتخفيض الاستخدام لمستشفى صيدا الحكومي، فما الذي يمنع تنفيذ قرارات التفتيش المركزي، لا بل، على العكس من ذلك، ازدادت التوظيفات العشوائية والمحسوبيات؟ أما المستشفيات الأخرى، فحالها ليست أفضل بكثير: تخمة في التوظيفات غير القانونية؛ زيادة في الرواتب والأجور من خلال سلف خزينة لا تُستردّ؛ غياب مسح شامل «يطهّر» القطاع العام من «الحشو» التوظيفي الذي تقاسمته مختلف الأحزاب؛ انعدام سياسة صحية تهدف إلى القيام بإصلاحات عبر محاربة الفساد. كلّ ذلك والتأمين الاستشفائي للمواطن يلفظ أنفاسه الأخيرة في ما تبقّى من أقسام «العناية الفائقة».
«المستشفيات الحكومية، كما كافة المؤسسات العامة في البلد، مستتبعة من قِبَل قوى طائفية ومقسَّمة في ما بينها. لا أحد يرغب بإجراء المسح الشامل ووقف هدر المال العام لأن الغاية من فتح هذه المستشفيات لأبوابها هو إنشاء مراكز توظيف وخدمات طائفية وسياسية وحزبية»، كما ختم صالح. فتحضّر أيها اللبناني لتسديد فواتير كهرباء مستشفيات لا تتردّد بِرَميِك على أبوابها وقد نهشتها براثن المحسوبيات.