مغارة الطوابع في الدولة المتحلّلة
منذ العام 2019، أي بعد مرور 90 عاماً على صدور مرسوم تنظيمها في أيار 1929، اندلعت أزمة الطوابع الأميرية كواحدة من معالم انهيار الدولة التي لا تزال تحتفظ مع ذلك بألقاب متقاسميها.
منذ العام 1929 تقوم الخزينة (وزارة المالية) بطبع وتوزيع الطوابع لاستيفاء الرسوم والعادات التي تُستوفى بإلصاق طوابع. ونصّ المرسوم الصادر في زمن الانتداب الفرنسي على أن تباع تلك الطوابع في المالية (الخزينة) وأقلام المحاكم ودوائر البريد ولدى كتّاب العدل والبائعين المأذونين، ونصّ في مادته الثالثة على تكليف وزراء المال والعدلية والداخلية بتنفيذ ما ورد فيه.
لم تدخل تعديلات كثيرة على ما جرى إقراره قبل 90 عاماً، وشكّلت الطوابع مورداً مالياً ثابتاً للخزينة حتى تحوّلت بعد العام 2019 إلى مورد أساسي لتجارٍ محظوظين يتمتّعون بحماية عصابة السلطة، وإلى أزمة يومية ووجع رأس للمواطن الذي يحتاج لإنجاز أبسط معاملاته في الدوائر الحكومية إلى طابع لا يجده إلا لدى شبكة المتاجرين غير القانونيين، أمام دوائر المالية والعدلية والداخلية نفسها المكلفة تطبيق القانون.
تعلو الصرخات منذ أكثر من أربع سنوات ولم يكلف أحد نفسه اتخاذ القرار المناسب، وبعد قرار الحكومة في موازنتها العجائبية الأخيرة زيادة قيمة الضرائب والطوابع المستوفاة، احتجّ المخاتير أيضاً. فعدا عن رفع قيمة رسوم المعاملات، رُفعت قيمة الطوابع المطلوبة، من دون أن يتمّ توفيرها في الأسواق، وزاد تجّارها جشعاً.
حتى الآن لا مصارحة حقيقية حول السبب الذي يجعل الطوابع مادة للتجارة في السوق السوداء. نعرف أنّه في صيف 2020 فشلت وزارة المالية في تمرير صفقة لطبع الطوابع في الخارج بسبب اعتراض ديوان المحاسبة وإدارة المناقصات، فاضطرت الوزارة إلى عقد اتفاق مع الجيش للطباعة بوفرٍ يفوق الخمسة مليارات ليرة بسعر تلك الأيام. إلا أنّ ذلك لم يمنع استمرار أزمة التوزيع.
بعد ذلك بأكثر من عامين (نهاية 2022)، اكتشفت لجنة الدفاع والداخلية والبلدية النيابية أنّ الأزمة موجودة «لكنها غائبة عن أذهان المسؤولين». إنها «مغارة جديدة» قال رئيس اللجنة جهاد الصمد في حينه مهدّداً بتقديم إخبار إلى «المراجع المختصة»، قبل أن تقرّر اللجنة بعد نحو شهر اعتبار موضوع احتكار الطوابع بمثابة إخبار! تُشكر اللجنة وغيرها على إخبارها، لكن القضاء كان جرى تحويله في الأثناء إلى جسمٍ مداهن أو مشلول ومقموع…
قبل أيام انتفض رئيس لجنة المال على أزمة الطوابع وطالب بما يرد في خاطر الجميع، لكن البارحة أيضاً، ومع إعادة فتح الدوائر هرع مئات الناس لإنجاز معاملاتهم، وكان الطابع عملة صعبة يهرعون إلى باعتها المحظوظين، الذين يوفّرون المطلوب على أبواب الدوائر وفي أفنيتها بأسعارٍ خيالية. وعندما تسأل عن مصدر حصولهم على هذا الذهب الأبيض يغمزون: من هناك!