القطاع البترولي… بين فقدان البوصلة وضياع الطريق
أذكر خلال مرحلة الدراسة الجامعية كانت العبارة التي يتمّ ترديدها على مسامعنا نحن طلاب القانون: «أحرص دومًا على غاية المشرّع من التشريع»، الى درجة أننا خرجنا إلى الواقع العملي وفي أذهاننا صورة للمشرّع تكاد تصل الى القدسية في ما يحمله النص التشريعي من غايات ومبادئ سامية.
اليوم، وبكل أسف وفي ظل واقع المناكفات السياسية والإنهيارات الإقتصادية والصدمات اليومية المتتالية التي تخدّر آمال المواطن وطموحاته في بلد لا يؤمّن له ولإبنائه أقل مقومات الحياة، بات التشريع في مهبّ التنفيذ بلا رقيب ولا حسيب، وضاعت هيبة المشرّع وغاية التشريع في قبح ومساوئ تنفيذ الدولة. وهذا الواقع وصلت أذياله إلى القطاع البترولي سواءً عن قصد أو غير قصد، ما يعنينا في هذا الإطار هي النتيجة. فعلى الرغم من محاولة إدارة قطاع البترول في لبنان، للنهوض بالقطاع وتأسيس أمل قد يخلق فرصةً للبلد في استقطاب إستثمارات خارجية، إلّا أنّ إحلال مبدأ التنازلات الدائمة على حساب نص التشريع وصل بالقطاع الى ما هو عليه من إنعدام التوازن وفقدان البوصلة، فتلاشت ملامح وجود خريطة طريق للوصول به إلى برّ الأمان بعيدًا من الحالة التي تعاني منها بقية قطاعات الدولة.
فمنذ إطلاق دورة التراخيص الأولى في المياه البحرية اللبنانية كان التطاول على النص التشريعي له مبرّره تحت مسمّى «الإعتبارات الوطنية والمصلحة العامة» التي لم نلمس صداها حتى اليوم. فمن تأخير دورة التراخيص الأولى لمدة 4 سنوات مع ما استتبعه هذا التأخير من تعطيل للقطاع وتقليص لفرص إستثمارية جديّة للتنقيب عن البترول في لبنان نتيجة انخفاض في أسعار البترول عالميّاً والتطورات التي طرأت على خريطة الاستكشاف والتنقيب في حوض البحر المتوسط، ومن دون توجيه سؤال حتى اليوم عن الأسباب الموجبة لذلك، والتي لا تخرج عن دائرة المناكفات السياسية، إلى تلزيم كل من الرقعة (4) والرقعة (9) لتحالف مؤلف من شركة «توتال إنرجيز» الفرنسية وشركة «يني» الإيطالية وشركة «نوفاتيك» الروسية التي حلّت محلّها اليوم شركة «قطر للطاقة والإستثمارات الدولية» (2) على الرغم من انّه كان من المفترض إلغاء دورة التراخيص الأولى آنذاك لوجود طلب واحد فقط مقدّم على كل رقعة، والذي يوجب في هذه الحالة وفق نص مرسوم دفتر الشروط الرقم 43 /2017 على وزير الطاقة والمياه وهيئة إدارة قطاع البترول، في حال كان عدد الطلبات المقدّمة على كل رقعة أقل من طلبين، إلغاء دورة التراخيص من دون تحمّل الدولة اللبنانية أي مسؤولية تجاه مقدّم الطلب! وهو الأمر الذي لم يحصل؟
إلى تأخير الحفر الإستكشافي في الرقعة الرقم (9) لاعتبارات تتعلق بترسيم حدود المنطقة الإقتصادية الخالصة الجنوبية مع إسرائيل، والتي حتى تاريخ اليوم منذ توقيع الإتفاقية في تشرين الاول 2022 يرفض مجلس النواب اللبناني عرضها على جدول أعماله والمصادقة عليها، على رغم من أنّها وفق المادة 52 من الدستور تمثل إتفاقًا دوليًا، كونها تنطوي على شروط تتعلق بمالية الدولة ووقّعها رئيس الجمهورية بصفته مفاوضًا عن الدولة، فلا يجوز إبرامها إلّا بعد عرضها على المجلس النيابي اللبناني والموافقة عليها!
وإذا ما عدنا إلى دورات التراخيص في المياه البحرية اللبنانية، فمن دورة التراخيص الثانية التي تمّ تمديدها لأكثر من مرّة، وثم استكمالها في ظروف لا تبشّر بخير نتائجها، ومع تكرار ما حصل في دورة التراخيص الأولى بالإصرار على المتابعة بها، على الرغم من فقدان شرط التنافسية وعدم وجود غير طلب وحيد مقدّم على كل من الرقعة (8) والرقعة (10)، إضافة إلى محاولة الدولة الإلتفاف على النصوص التشريعية المتعلقة بمرحلة الإستكشاف عبر تخيير الإئتلاف الفائز وخلال 12 شهرًا من الموافقة على خطة الإستكشاف لإتخاذ قرار بالإلتزام أم عدمه من حفر بئر إستكشافية للرقع محل إتفاقية الإستكشاف والإنتاج، بالمناقضة لما ورد من تعريف لمرحلة الإستكشاف في قانون الموارد البترولية الرقم 132 لعام 2010 التي تعرّف مرحلة الاستكشاف بحفر الآبار للاستكشاف وليست الإستطلاع. فكيف يمكن تلزيم رقعة حصرياً لإئتلاف قد لا يرى بعد أكثر من 12 شهرًا من حجز الرقعة عدم وجود غاية له من الحفر!! هل في ذلك غاية التشريع من تمكين الدولة إدارة مواردها أم هدرها؟!
ومع عدم وضوح مصير المفاوضات حول الرقعتين (8) و (10)، يتمّ الإعلان عن دورة التراخيص الثالثة في ظل ظروف الغليان والحرب التي تمر فيها غزة وجنوب لبنان، بل أكثر من ذلك، تعلن دورة التراخيص الثالثة بناءً على توصيات وموجبات فاقدة لقيمتها، وتفتح لعدد من الرقع من ضمنها الرقعة (8) و(10) التي هي محل تفاوض أصلًا، ما يكشف للأسف عن فقدان القطاع البترولي لبوصلة قد تمكّن الدولة من تحقيق الإستثمار الأمثل لمواردها البترولية.
لا أحد ينكر أنّ التجربة اللبنانية في القطاع البترولي أثبتت صعوبة تحقيق التنافسية التي اعتمدها المشرّع اللبناني في إستراتيجية التراخيص على الرقع اللبنانية، لكن الصعوبة في تحقيقها ليست مبررًا لتحايل السلطة على التشريع وهدر مبدأ سيادة القانون، بل يجب إعادة النظر في التجربة وتقييم استراتيجيات التراخيص وإجراء مراجعة وتقييم للتشريعات والنُظم التي ترعى قطاع البترول اللبناني، بغية جذب الشركات البترولية العالمية للاستثمار، وتمكين الدولة بصورة شفافة وعادلة من استثمار مواردها البترولية.
ما قيل ليس إلّا ناقوس خطر علّه يجد من يجيب قبل ضياع مواردنا البترولية تحت ذريعة «المصلحة العليا للوطن».