الدولة تحقق فائضاً لأول مرة منذ أعوام: إيجابية في عزّ الأزمات
لا يستقيم اقتصاد ما لم تتحقق فيه مقومات عدة، لعل أهمها شرط التوازن ما بين الإيرادات والإنفاق وانتفاء العجز التراكمي سنة بعد أخرى، كي لا يهتز الميزان الدقيق الذي يحكم العلاقة بين التوازن المالي للدولة من جهة، واستقرار سعر صرف العملة الوطنية من جهة أخرى، إذ سيكون حينها سقوط الهيكل حتمية بديهية لا خياراً إرادياً.
بيد أن فرض التوازن المالي ما بين الإيرادات والنفقات دونه عقبات ومطبات تبدأ بقدرة المكلف على تحمّل المزيد من الضرائب والرسوم، ولا تنتهي بتحمّل الدولة مسؤولياتها تجاه مواطنيها من جهة، وتجاه تفعيل إدارة جباياتها ومستحقاتها لتتمكن من تأمين مصاريفها وتسديد فواتير الخدمات والرعاية ورواتب العاملين فيها ومعها.
فعلتها الدولة اللبنانية نسبياً، وقدمت في النصف الثاني من 2023 نموذجاً فاقعاً عن قدرتها حين يحزم أولياء الأمر فيها قرارهم بتحمّل مسؤولياتهم بإصلاح أدائها والدفع بها للقيام بدورها ووظيفتها الطبيعيين بنجاح. فللمرة الأولى ربما منذ عقود، وعلى الرغم من الظروف الاستثنائية التي تمر بها البلاد والاقتصاد عموماً، يتحقق فائض مالي في إيرادات الدولة مقابل النفقات، وذلك بعدما فعّلت الدولة ومؤسساتها العامة جباياتها ورفعت بعض الرسوم والإيرادات لتحقق مداخيل للخزينة العامة بالليرة والدولار “الفريش” ما فاق السقف الذي كانت تبتغيه.
فبعدما جفّ ضرع مصرف لبنان، وحسم الحاكم بالإنابة وسيم منصوري قراره بالتوقف عن تمويل الدولة من جيب “المركزي”، ومنعها من مد يدها على بقايا الاحتياط الدولاري وودائع المصارف لديه، “شد الشباب” في الدولة همّتهم، وصار لزاماً عليهم البحث عن أبواب أخرى لتمويل مصاريف الدولة ورواتب جيش موظفيها في الإدارة والمؤسسات العامة والبلديات، خصوصاً بعدما أجبرها فقدان الليرة قيمتها السوقية على مضاعقة بند الرواتب والأجور في ميزانيتها، ما بين ستة وسبعة أضعاف و”الحبل” على وعود الجرار بزيادتها أكثر.
وتؤكد مصادر متابعة أنه “قد لا تكون النتائج المالية المحققة كافية كلياً لإعادة إطلاق الاقتصاد والنهوض به مجدداً بعد كبوته، لكنها حتماً فرصة لتعزيز الإيمان بقدرة الدولة على الوفاء بالتزاماتها تجاه مواطنيها إذا ما توفر لهذه الدولة إرادة جدية في معالجة الفوضى في الجباية والإنفاق، وإقفال منافذ الفساد وتحقيق الشفافية والحوكمة في سلوكها وأدائها”.
إذن، يبدو من الأرقام الاولية التي لا تزال تخضع للتدقيق قبل صدورها رسمياً من وزارة المال، أن مجموع إيرادات الخزينة اللبنانية بلغ خلال عام 2023 (في حال احتسابها بالدولار الأميركي على سعر 89500 ليرة) ما يوازي نحو 2.7 مليار دولار (نحو 242 ألف مليار ليرة). ووفق الأرقام التي حصلت عليها “النهار”، فقد بلغ مجموع نفقات الخزينة في عام 2023 نحو 2.3 مليار دولار (في حال احتسابها بالدولار الاميركي على سعر 89500 ليرة) نحو 203 آلاف مليار ليرة، بما يعني أن الخزينة حققت فائضاً خلال عام 2023 يبلغ نحو 39 ألف مليار ليرة لنانية أي ما يفوق 400 مليون دولار فريش. بالطبع قد يتحول هذا الفائض الى عجز في حال احتساب الديون والفوائد المستحقة على الدولة اللبنانية خلال عام 2023 ولا سيما اليوروبوندز التي أعلنت حكومة د. دياب سابقاً التوقف عن دفعها.
هذا الفائض الاولي المحقق من الدولة اللبنانية أسهم كثيراً في الاستقرار النقدي الذي يعيشه اللبنانيون منذ منتصف عام 2023. وتحقيق الدولة لفائض أولي كبير نسبياً خلال عام 2023 وفق مصادر مطلعة يعود للأسباب الآتية:
– الارتفاع الكبير في إيرادات الخزينة منذ شهر أيار 2023 حيث بدأ احتساب الدولار الجمركي على سعر منصة صيرفة.
– الإنفاق في عام 2023 تم وفقاً لموازنة 2022 (القاعدة الاثنا عشرية) والمبنيّة على سعر 1500 ليرة لكل دولار. لذلك كان الإنفاق محدوداً واضطرت الحكومة مرغمة إلى إعطاء سلف خزينة مدروسة لتأمين نفقات الجيش اللبناني والقوى العسكرية والمحروقات ولإطلاق العام الدراسي… وعلى الرغم من إعطاء هذه السلف حققت الخزينة فائضاً مهماً رغم الظروف الاستثنائية والصعبة التي يمر بها لبنان.
– توقف مصرف لبنان عن إقراض الدولة أو دعمها، وهذا جعل الخزينة تتشدد في الإنفاق.
ومن المهم الإشارة الى أن نصف إيرادات الخزينة بالعملة اللبنانية تم تحصيله نقداً وذلك بالتوافق بين وزارة المال ومصرف لبنان وذلك من أجل ضبط السيولة وحسن إدارتها وتحقيق استقرار نقدي. كذلك تم تحصيل أكثر من 300 مليون دولار “فريش” خلال عام 2023 ومعظمه من عائدات المرفأ والمطار. كذلك يشار الى أن جزءاً أساسياً من نفقات الخزينة ذهب للرواتب والأجور وبدلات النقل للقطاع العام، والجزء الآخر ذهب للدعم ولا سيما دعم الأدوية وشراء المحروقات لكهرباء لبنان (خصوصاً في النصف الأول من عام 2023)، فيما ذهب جزء كسلف خزينة متنوعة ولا سيما سلف الخزينة لوزارة الدفاع ووزارة الداخلية ووزارة التربية وغيرها…
والمعلوم أن نفقات الخزينة تضمنت نفقات الدولة كافة بما فيها ما تم إنفاقه من خلال استخدام حساب ما يعرف بالـSDR وسلفات الخزينة التي تم إنفاقها والتي فاقت 30 ألف مليار ليرة لبنانية (علماً بأن سلفات الخزينة التي تم إقرارها تفوق 70 ألف مليار ليرة، بيد أنه تم إنفاق 30 ألف مليار ليرة فقط من هذه السلف).
ولكن الخبير الاقتصادي الدكتور إيلي يشوعي اعتبر أن ارتفاع إيرادات الخزينة ناتج عن عملية تصحيح سعر الصرف ليس أكثر، إذ برأيه إن “الجباية لا تزال انتقائية ولا تشمل عموم المكلفين، حتى إننا لا نزال بعيدين كل البعد عن مبدأ المساواة والعدالة الضريبية، إذ ليس كل المكلفين في لبنان يدفعون متوجباتهم الضريبية ولا حتى رسوم الخدمات العامة فضلاً عن تعطل إدارات عامة في الدولة تدرّ أموالاً طائلة على الخزينة مثل الدوائر العقارية والمكيانيك. فهذه العوامل كانت لا تزال قائمة في عام 2023، بما يؤكد أن إيرادات الدولة التي حققت 2.7 مليار دولار لا علاقة لها بحسن الجباية، بل بتصحيح سعر الصرف.
بالنسبة للنفقات، قال يشوعي “إن كانت الإيرادات احتسبت على أساس سعر صرف 89500 ليرة أي على أساس الصرف الحقيقي، فإن السؤال هو: هل ما طبق على الإيرادات طبق على النفقات وخصوصاً أجور القطاع العام وتعويضات المتقاعدين؟ بمعنى آخر، هل الأجور قُوّمت بالدولار كما كانت عليه قبل الانهيار المالي، أم دُفعت على أساس صرف 89500 ليرة، ليخلص الى القول إن الارقام التي تتحدث عن زيادة إيرادات تمت على حساب الاقتطاعات الكبيرة في أجور القطاع العام وعلى حساب خدمة الدين العام بسبب إفلاس الدولة، والغياب شبه الكامل للنفقات ذات الطابع الاستثماري.