عن خطأ أم عن قصد؟
يتفاعل موضوع دعم المتقاعدين في التعليم الخاص، وكانت هناك محاولة لمعالجة الموضوع عبر إلزام المدارس دفع مبلغ 60 مليار ليرة شهرياً على الأقل، لتغطية دفع المعاشات التقاعدية مضاعفةً 6 مرات لمن يتقاضاها من صندوق التعويضات.
هذا إجراء ترقيعي لا يعالج أساس المشكلة، وهذه الأزمة لا تطال فقط المعلمين بل كل مواطن لبناني في القطاع العام او الخاص الذي فَقَد تعويض نهاية الخدمة وبات معرّضاً لأزمة اجتماعية حادة بعدما فقدت هذه المدخرات قيمتها.
ويبدو انّ الاتجاه اليوم هو ان يعيد اصحاب العمل تكوين صناديق التعويضات من دون معالجة جذور المشكلة، والتي تتمثل بسؤالين جذريين:
– اولاً، مَن المسؤول عن انهيار العملة وتبخّر أموال صناديق التعويضات والمتقاعدين وجنى عمرهم؟ وألن يتحمّل من سبّب الانهيار مسؤوليته تجاه المتقاعدين؟
– ثانياً، إذا ستتمّ إعادة تكوين هذه الصناديق، كيف ستتمّ إدارتها وبأية شفافية، وهل سيتمّ اتباع نفس الطرق القديمة؟
وقبل الإجابة عن هذه الاسئلة وتحميل المؤسسات أعباء اضافية، فلنتذكر كارثة سلسلة الرتب والرواتب التي حذّرنا منها، والتي تمّ إقرارها من دون وجود تمويل لها وكانت أرقامها مغلوطة.
جواباً عن السؤال الاول، تتحمّل الحكومة والمصرف المركزي والمصارف المسؤولية المباشرة عن انهيار العملة وتبخّر المدخرات وفقدان قيمتها. فقد أدّت إساءة الأمانة التي مارسوها إلى تدمير حياة كثير من العائلات التي وصلت الى التعتير. لذلك، يقع على عاتق هؤلاء مسؤولية مباشرة بمعالجة المشكلة عبر تمويل صناديق التعويضات، وهذا يتمّ عبر الخطوات التالية:
– إعادة الثقة والفاعلية فوراً للقطاع المصرفي عبر فتح حسابات المصرف المركزي وحسابات كل مصرف على حدة، ومقارنة التقارير، للوصول الى تصور واضح بتحديد المسؤوليات وما خسر كل مصرف وماذا بقي لديه، ليُصار الى إرجاع ما تبقّى من الودائع حالًا لأصحابها. ليس المطلوب اليوم افلاس المصارف، ولكن لا يجوز ان تحقق أرباحاً على حساب المودعين، لذلك يجب التدقيق في كل الحسابات لتبيان من يحقق ارباحاً ومن هو متعثر. لن يستقيم حال المصارف وتعود الى ممارسة دورها الأساسي في الدورة الاقتصادية ما لم تتمّ إعادة الودائع.
– أن تدرس الدولة إمكانية بيع بعض الاراضي، وبخاصة تلك التي لا جدوى اقتصادية من بقائها في عهدة الدولة، مثل اراضي سكك الحديد البحرية مثلاً، وغيرها. فمن يتعرّض للإفلاس يفكر بطرح بعض الاصول للبيع وللاستثمار. فمن غير المقبول ان تستمر الدولة بالتهرّب من مسؤولياتها تجاه الشعب الذي افقرته، وهو مهدّد بأزمات اجتماعية صعبة. والسؤال لمصلحة مَن إبقاء اراضٍ في عهدة الدولة لا جدوى اقتصادية لها؟ لماذا هذا الترفّع عن بيع اراضٍ إبقاؤها في عهدة الدولة فيه ضرر كبير؟ هل هو خطأ اقتصادي ام خطأ مقصود؟
– تفعيل الاقتصاد المنتج عبر كافة الحلول التي نطرحها مراراً، مثل تغيير الإجراءات الإدارية، تفعيل التصدير، والاهتمام بالقطاع السياحي وإلغاء القوانين المضرّة بالاستثمار. الحلول واضحة وممكنة لإعادة الازدهار الاقتصادي، ولكن حتى الآن يبدو انّ هناك تعمّداً مقصوداً بإطالة الأزمة.
– وبالطبع، لن تنجح اي حلول ما زالت الشفافية غائبة، ولذلك يجب إقرار الشفافية المطلقة والبيانات المفتوحة واعتمادها في كل مفاصل الادارة العامة، وذلك لإعادة ثقة المواطن بالحكومة وبالقطاع العام (لو كانت الانطلاقة بدايةً من دون استعداد تكنولوجي متكامل، الاّ انّه بمساعدة الشركات الخاصة تتحقق المكننة الكاملة في اسرع وقت ممكن). فسياسة الغموض استُعملت لعقود عمداً او جهلاً لإفقارنا وخرابنا.
اما الجواب عن السؤال الثاني، انّ طريقة ادارة صناديق التعويضات كانت كارثية وبعيدة كل البعد من الشفافية. فكيف سيقتنع صاحب العمل في إعادة تمويل هذه الصناديق إذا لم يتمّ تغيير عقلية ادارة هذه الصناديق، وإذا لم تتحمّل الدولة ومعها المصارف المسؤولية عمّا اوصلوا الحال اليه.
فتمّ إجبار الضمان الاجتماعي مثلاً على توظيف الغالبية الساحقة من أصوله في سندات الخزينة، بينما المتبقّي من أصوله «محجوز» على شكل ودائع مصرفية، وهذا ما اعترضنا عليه طوال سنوات، وطالبنا بتنويع سبل الاستثمار، من جهة لزيادة استفادة الموظف، ومن جهة اخرى عدم وضع كل الأصول في سلّة واحدة تهدّد تعب وجنى العامل. وليس واضحاً كيف تمّ توظيف الاموال في صندوق التعويضات لمعلّمي المدارس الخاصة بسبب غياب الشفافية، بالإضافة الى المشاكل المتراكمة في كافة الصناديق من حيث عدم العدالة في التسديد وغياب المكننة وعدم وجود خطط استثمارية واضحة.
كما انّ ادارة الضمان الاجتماعي تتهرّب من اتخاذ اي إجراءات ضدّ من يتهرّب من دفع الاشتراكات، وتريد ان تبدأ بالتفتيش في مؤسسات القطاع الخاص، مع العلم انّ القطاع العام مديون للضمان بأكثر من 5 مليارات دولار على اساس 1500ل ل! فمن الخطأ القيام بأي إجراء قبل تعيين لجنة مالية من اصحاب الإختصاص لاستثمار أموال الضمان حسب المعايير العالمية، وقبل ان تدفع الدولة آخر قرش مستحق للضمان!
لا يمكن إعادة تمويل هذه الصناديق وهي مهترئة ولا تؤدي دوراً فاعلاً في ضمان حقوق المتقاعد. والأهم، من الغباء الانطلاق بأي حل لمشكلة راهنة من دون ان تكون الشفافية مطبّقة. فمِنَ الجنون إعادة ملء سلّة بالمياه.