المصارف واستعادة الثقة المفقودة – بقلم غازي محمود
• عميد متقاعد، دكتوراه في الاقتصاد وباحث في اقتصاديات الطاقة
للسنة الرابعة على التوالي تستمر ازمة لبنان المالية والاقتصادية على تعقيداتها، من دون أن يلوح في الأفق أية مؤشرات أو مبادرات جدية تضع الازمة على طريق الحل. وفيما استعادت معظم الأنشطة الاقتصادية المبادرة، على اختلاف احجامها وتعدد مجالاتها، لا يزال قطاع الخدمات يراوح في متاهات الازمة. أما الخدمات الأكثر تضرراً من هذه الازمة وتداعياتها فهي الخدمات الفندقية والمصرفية، في حين لم تتأخر الخدمات التعليمية والاستشفائية عن استعادة حيويتها.
وحده القطاع المصرفي لا يزال متعثراً ويتخبط في تداعيات الازمة، حيث لم تتبلور معالم الحلول المناسبة له، ومن دون ان تتمخض الفترة التي انقضت من عمر الازمة عن نهاية قريبة لها. مع العلم أن تعثر المصارف لم يكن بسبب الازمة، لا بل إن المصارف هي من تسببت بالأزمة في شقها المالي على الأقل. وعوض أن تستشرف هذه المصارف مخاطر سياسات الدولة المالية والتقذية، ذهبت بعيداً في الترويج لها واستقطاب المودعين طمعاً بتحقيق مزيد من الأرباح الاستثنائية.
وفي الوقت الذي يُوازي فيه تعثر المصارف من الناحية القانونية افلاسها، تعثر القطاع المصرفي برمته من دون أن يُعلن مصرف لبنان عن افلاس أي مصرف منها. حيث تمكنت هذه المصارف من المحافظة على استمراريتها على حساب المودعين ومدخراتهم، وتواطئ من المصرف المركزي والسلطة السياسية. وقد كان للمماطلة في اقرار القوانين التي من شأنها اعادة تنظيم عمل المصارف لمواجهة تداعيات الازمة المالية والاقتصادية، الدور الأساسي في استمرار تعثر القطاع المصرفي وتخلفه عن القيام بدوره المحوري في الأنشطة الاقتصادية.
وقد سمحت هذه المماطلة للمصارف في الاستمرار باحتجاز اموال المودعين، ووضع القيود على السحوبات أو ما يُعرف بـ “الكابيتال كونترول” من جهة، وتطبيق “الهيركات” بالتكافل والتضامن مع مصرف لبنان من جهةٍ ثانية، ومن دون مسوغ قانوني في كلتا الحالتين. بالإضافة الى الاستنسابية التي اعتمدتها في التحاويل، وصولاً الى امتناعها عن تحويل الأموال الى الطلاب الذين يُتابعون دراستهم في الخارج، على الرغم من إقرار مجلس النواب لقانون الدولار الطلابي، الى غيرها من الممارسات.
الامر الذي أفقد المصارف صدقيتها وحال دون عودة ثقة المودعين بها، ودون عودتهم الى اعتمادها في عملياتهم المالية وخاصةً تحويلاتهم، ما تسبب بزيادة تكلفة هذه العمليات وزيادة المخاطر التي ترافقها. في الوقت الذي كان ينحسر فيه انتشار المصارف، التي أغلقت ما يزيد عن ٤٠٠ من فروعها الواحد تلو الآخر في لبنان وحول العالم، نتيجةً لتراجع إيراداتها وانعدام توظيفاتها.
في المقابل تنشأ وتتمدد بشكل متزايد، مؤسسات مالية في مختلف المناطق اللبنانية، منها شركات تحويل الأموال وغيرها من المؤسسات التي تقدم خدمات متنوعة تشمل منح القروض وبطاقات الائتمان وغيرها. ما حال دون عودة المصارف الى القيام بهذه الأدوار التي كانت حكراً عليها، وحرمت الدولة من الرسوم والضرائب التي تترتب على هذه النشاطات، بعدما فقدت الدولة دورها الرقابي على القطاع المالي وعلى عمليات الاستيراد والتصدير وازدياد التهرب الضريبي.
وقد ساهمت التحولات السلبية التي طرأت على الدور الاقتصادي للقطاع المصرفي وطغيان الاقتصاد النقدي في تدهور قيمة العملة الوطنية والحؤول دون النهوض الاقتصادي. ولعبت هذه التحولات الدور الاساسي في نمو اقتصاد الظلّ والتهريب عبر الحدود، ما شكل عبئاً على الدولة وسبباً لتراجع عائداتها من الرسوم والضرائب. الا انه في المقابل وعلى الرغم من التداعيات السلبية الآنفة الذكر، شكل الاقتصاد النقدي واقتصاد الظل عوامل مساعدة على استمرارية الاقتصاد الوطني في ظل عجز الدولة عن تقديم البدائل المناسبة.
ومسؤولية المصارف عن الازمة المالية التي تضرب الاقتصاد الوطني، بدأت منذ اللحظة التي حصرت فيها توظيفاتها في تمويل الدين العام والاكتتاب بالسندات العامة. ما شكل مخالفةً لأحكام قانون النقد والتسليف وقواعد ممارسة العمل المصرفي لا سيما احكام المادة ١٢١ منه، حيث يتعين على المصارف توظيف الودائع في إقراض الأفراد والمؤسسات الاستثمارية. ما أدى الى تقليص المصارف لدورها في الاقتصاد الوطني طوعاً، لجهة تشجيع الاستهلاك وتمويل الاستثمارات المحلية، الامر الذي لو حصل كان يُمكن أن ينشط الدورة الاقتصادية ويُساعد على زيادة حجم الاقتصاد وتوسيع القاعدة الضريبية.
وتكمن مسؤولية المصارف في انكشافها على مخاطر الدين العام السيادي من دون تكوين مؤونات مقابلة له، في حين قلصت تسليفاتها الى القطاع الخاص الذي لم تكن مخاطر إقراضه أكبر من مخاطر تمويل الدولة، ما يدل على سوء تقييم ادارات المصارف لمخاطر توظيفاتها. وهي تكمن كذلك في مخالفة المصارف لقواعد إدارة المخاطر التي سبق وحددتها لجنة بازل، التي تفرض اختياراً مدروساً لعملية الاقراض وفقاً لمعايير التحوّط والاحتراز. مما وفر ارباحاً طائلة واستثنائية لأصحاب المصارف والمساهمين فيها، من خلال المخاطرة بأموال المودعين وعلى حسابهم.
في المقابل، من الصعب أن تعود عجلة الاقتصاد الى دورانها الطبيعي مع استمرار تعثر المصارف، كون هذا القطاع يُشكل العمود الفقري لبقية القطاعات الاقتصادية، واستعادة دوره المحوري شرط لانتظام نشاطها. ذلك أن القطاعات التي استعادت نشاطها الاقتصادي انما استعادته جزئياً، وتعترضها العديد من العقبات التي يصعب تخطيها لا سيما ما يتعلق منها في العمليات المالية وتمويل الاستثمارات. ذلك أن في حل أزمة القطاع المصرفي، جزء أساسي من حل لازمة لبنان المالية والاقتصادية.
واليوم وبعد استمرار الازمة وطغيان الاقتصاد النقدي وتضخم ارقامه، تتأكد الحاجة لاستعادة المصارف دورها في الائتمان والتمويل. الا انه دون استعادة المصارف لدورها العديد من العقبات القانونية والتنظيمية، ولعل العقبة الأهم تكمن في إصرارها على تبرئة نفسها من المسؤولية عن الازمة وتفاقمها. وفيما ازالة العقبات القانونية والتنظيمية هي من مسؤولية السلطتين السياسية والنقدية، على المصارف أن تُبلور من ناحيتها حلولاً مناسبة، لا بل حلولاً خلاقة تؤمن استدامة عمل القطاع المصرفي وتحفظ في الوقت نفسه، حقوق المودعين ومقدرات الدولة وممتلكاتها.
وعلى الرغم أنه من الصعب أن يُساهم في حل الأزمة من تسبب بها، الا أن مصلحة المصارف في استعادة دورها في قبول الودائع ومنح القروض تفرض عليها المبادرة والبحث عن الحلول المناسبة، ليس للقطاع المصرفي وحسب، لا بل للأطراف الاقتصاديين كافة وخاصة منهم المودعين الذين يجب المحافظة على حقوقهم. ولا جدوى من الرهان على عامل الوقت لحل الازمات فالوقت يمر والازمة تزداد تعقيداً، وتقدم الوقت يجعل الحلول اكثر صعوبة وبعيدة المنال.
وبالتالي فان الطريق لاستعادة المصارف ثقة مودعيها واستقطاب مودعين جدد، لا بل استعادة ثقة الاطراف الاقتصادية كافةً تبدأ بثلاث خطوات أساسية. أولها إعادة رسملة المصارف تمهيداً لإعادة هيكلتها حيث تستمر المصارف المليئة بهوياتها الحالية لتندمج معها مصارف أخرى أقل ملاءة، بينما البديل مصارف جديدة او فروع لمصارف اجنبية.
اما الخطوة الثانية فهي العمل على وضع المصارف خطة واقعية لإعادة الودائع، تحرص فيها على إعادتها خلال مهلة عشر سنين كحدٍ أقصى مع الحرص على تقليص خسائر المودعين، ذلك أن حجم هذه الخسائر يُعيد الثقة بين المصارف والمودعين، ويشجعهم على إيداع أموالهم فيها مستقبلاً.
فيما الخطوة الثالثة والأخيرة فهي في أن تعود المصارف الى منح القروض الى الافراد والمؤسسات، من خلال استخدامها لجزء من الأرباح التي سبق أن حققتها. ذلك أن استعادة المصارف لثقة زبائنها فيها من أفرادٍ ومؤسسات، يتطلب منها أن تثق هي بهم اولاً وأن توفر لهم التمويل المناسب لاستثماراتهم وغيرها.
هذه الخطوات الثلاث التي على المصارف السير فيها، يجب ان تتزامن مع خطوات من السلطتين المالية والنقدية تحميها وتوفر الظروف المواتية لتطبيقها وبلوغ أهدافها. وذلك انطلاقاً من مسؤولية الدولة عن إدارة الاقتصاد، ولا سيما استمرارية القطاع المصرفي، فضلاً عن مسؤوليتها عن حقوق المواطنين وودائعهم.
والخطوات المطلوبة من الدولة لا تقتصر على وقف المماطلة بإصدار القوانين المتعلقة بهيكلة المصارف والكابيتال كونترول وغيرها من القوانين المتعلقة بعمل المصارف، بل يجب على الدولة بكافة سلطاتها أن تبلور رؤية لمستقبل لبنان الاقتصادي بقطاعته المختلفة.