قانون الطاقة المتجددة يُسقِط احتكار قطاع الكهرباء
بعد مسار طويل و«مساومات» بين اللجان النيابية والحكومة، انتهت بإسقاط المادة التي تولي وزير الطاقة صلاحيات «الهيئة الناظمة» لحين تعيينها، أقرّ مجلس النواب أخيراً قانون إنتاج الطاقة المتجددة الموزعة الرقم 318 /2023، وقد جاء ذلك بعد سنوات من انتظار تحقيق «حلم» الشراكة مع القطاع الخاص وإصلاح نظام الكهرباء الذي لطالما طالبت به مختلف المؤسسات الدولية ووضعته شرطاً أساسياً لتعاونها. وقد اعتبرت المؤسسات الدولية تعيين الهيئة الناظمة لقطاع الكهرباء أولوية، بعد فشل تنفيذ مسلسل خطط الكهرباء التي أقرّتها الحكومات المتعاقبة أو أدرجتها ضمن بياناتها الوزارية منذ العام 2010، وانتهت بانهيار مالية الدولة وإفلاس الخزينة نتيجة النزف الذي تسبّب به دعم الكهرباء المتمادي بسلفات الخزينة.
يؤكّد إقرار هذا القانون سقوط سياسة احتكار قطاعات إنتاج الكهرباء ونقلها وتوزيعها وحصرها في يد «مصلحة كهرباء لبنان». ويعود ذلك إلى طبيعية التطورات المستجدة على مستوى ظروف الدولة والاقتصاد والحاجة الملحّة لتفعيل الشراكة مع القطاع الخاص، وإمكانية أن تعوّض الشراكة عن عدم قدرة الدولة وعجزها عن تمويل المشاريع الكبرى، وعن تقصير القطاع العام ومؤسساته في تسيير المرافق الخدماتية بطريقة اقتصادية مجدية تستجيب لمقتضيات الاستثمار الرشيد والحوكمة. ولعلّ من الجدير بالذكر، عدم التزام الوزراء بتنفيذ القوانين الإصلاحية المتعددة الصادرة بهدف تعزيز إمكانات التعاون مع القطاع الخاص وتطوير قطاع الكهرباء وامتناع وزراء الطاقة المتعاقبين عن تنفيذ قانون تنظيم قطاع الكهرباء 462 /2002 الذي أنشأ الهيئة الناظمة. وعاد القانون 181/ 2011 ليعطي مهلة ثلاثة أشهر من تاريخ صدوره لتعيين هذه الهيئة المنصوص على دورها في تطبيق قانون تنظيم الشراكة مع القطاع الخاص الرقم 48/ 2017. فحال عدم تعيينها دون تفعيل هذا القانون في نطاق قطاع الكهرباء وبناء المعامل وتطوير مصادر الإنتاج لتشمل الطاقة المتجددة بمختلف أشكالها.
لقد تركّزت الأسباب الموجبة لقانون إنتاج الطاقة المتجددة الموزعة على ورقة سياسة قطاع الكهرباء، المعروفة باسم «خطة الكهرباء»، التي من أهدافها تأمين ثلث الطاقة الكهربائية التي تحتاجها البلاد من مصادر متجددة. وتُعتبر الطاقة الشمسية من أكثر الوسائل فعالية من حيث التكلفة ومدة التنفيذ والأقل حاجةً للتمويل والأسرع في تخفيف حدّة أزمة الكهرباء، والتي ما زال يعاني منها كل بيت ومواطن ومختلف القطاعات الاقتصادية والخدماتية، الخاصة منها والعامة، على حدّ سواء. ولعلّ هذه هي الأسباب نفسها التي انطلقت منها الدعوات لاعتماد حل الطاقة الشمسية وإيلاء البلديات صلاحية إنتاج الكهرباء وتوزيعها بالتعاون مع القطاع الخاص وبالشراكة معه، والتي كان وما زال يعوقها تعيين الهيئة الناظمة.
وقد أثبتت التجربة نجاح تعاون البلديات مع القطاع الخاص في بناء معامل إنتاج الكهرباء من الطاقة الشمسية أو من النفايات بدعم المجتمع الأهلي، بحيث تمّ بناء مزرعة طاقة شمسية للعموم في بلدة «تولا» بالتعاون مع متمولين ومهندسين من أهل البلدة، لغاية تأمين الكهرباء لهم من طاقة نظيفة، وربطت إنتاجها بشبكة المولدات وأمّنت الكهرباء لأهلها وللمؤسسات العاملة ضمن نطاقها بكلفة أقل من المولّدات. كما أثبتت تجربة بلدة «قبريخا» بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي UNDP نجاحها وإمكانية تعميمها، ووضعت المسؤولين والمعنيين بشؤون المواطن من نواب وبلديات أمام مسؤولية دعم التوجّه نحو إصدار تشريعات توفّر الإطار القانوني اللازم لإقرار حق البلديات في إنتاج الطاقة وتوزيعها بالتعاون مع القطاع الخاص وتكريسه في إطار منافسة جدّية ولامركزية واسعة تغطي جميع الأراضي والمناطق اللبنانية. وتُمكِن لأنظمة الطاقة المتجددة المبنية على نظام التعداد الصافي، المساهمة في تحقيق أهداف إنتاج الطاقة من المصادر المتجددة بطريقة فعّالة من حيث التكلفة، وتوفير الفرصة لجميع مستهلكي الكهرباء لتغطية جزء مهم من احتياجاتهم منها، وبالتالي تخفيف الضغط على الشبكة العامة. ومن المفترض أن تتيح هذه الأنظمة للبلديات إمكانية بيع الطاقة المتجددة وشرائها من خلال اتفاقات مباشرة لشراء الطاقة بالتعاون بينها وبين القطاع الخاص.
ولكن ما يثير الخشية، هو أن يكون قانون الطاقة المتجددة الموزعة وُلِد ميتاً ليبقى معلّقاً بلا تنفيذ؛ ذلك أنّ تطبيقه يستوجب وجود الهيئة الناظمة إياها. ولطالما أصرّ وزراء الطاقة على تعديل قانون تنظيم قطاع الكهرباء الذي أنشأ الهيئة الناظمة في اتجاه مصادرة صلاحياتها، فحالوا بذلك دون تعيينها. وليس ثمة ما يضمن تعيينها اليوم في ظلّ تصريف الأعمال ما دام قطاع الطاقة محكوماً بنهج معيق للنهوض.
ولبيان أهمية مخاطر عدم الالتزام بتنفيذ هذا القانون، لا بدّ من التذكير بالفرص المتعددة التي توافرت لمعالجة أزمة الكهرباء بلا نتيجة. ولا بدّ من التذكير بفشل مشروع إنتاج الطاقة من الرياح الذي أجراه وزير الطاقة في حينه من خلال جمعية خاصة لا تتوخى الربح تعمل بإشرافه وتقيم في مبنى وزارة الطاقة، دون أن تكون لها صفة أو نظام أو صلاحيات في القانون. وكذلك وافق مجلس الوزراء في 12/ 5/ 2022 على «استدراج نوايا» لإنتاج الكهرباء من الطاقة الشمسية، كان أجراه وزير الطاقة خلال العام 2017، على أن يبدأ الإنتاج في غضون ثلاثة أعوام. ومع ذلك، لا يبدو أنّ تنفيذ المشروع موضوع في المسار المرسوم له، والأرجح أن يلاقي مصير مشروعي الطاقة من الرياح والغاز المصري المعلّقين، في انتظار توفّر تمويل خارجي.
لا تقتصر شوائب قانون إنتاج الطاقة المتجددة الموزعة على عائق تشكيل الهيئة الناظمة، فهو يقتضي إنشاء مديرية خاصة بالطاقة المتجددة ضمن مؤسسة كهرباء لبنان. ولهذه المديرية صلاحيات مباشرة واسعة من خلال ضبط تبادل الطاقة في إطار نظام التعداد الصافي وتحديد المواصفات الفنية ورسوم العبور والموافقة على ربط أنظمة الإنتاج بشبكتها. ويتمّ ذلك في غياب الهيئة الناظمة الذي يُفترَض بموجب هذا القانون أن تتولّى هي إصدار الأذونات بإنشاء تجهيزات الإنتاج أو تجهيزها أو تطويرها أو تملّكها أو تشغيلها أو صيانتها، والإجازة بالربط وتحديد أولوياتها والرصد والمراقبة وإصدار الأنظمة والقرارات التطبيقية اللازمة. ونذكّر هنا بالمرسوم الاشتراعي 79 /77 الذي لم يُنَفَّذ حتّى الساعة، وأوجب دمج منشآت النفط بملاك المديرية العامة للنفط وبدمج «قاديشا» بمؤسسة كهرباء لبنان الذي لم يكتمل هو أيضاً، ليبقى كلاهما حديقة خلفية تتيح للوزير تجاوز القوانين والتصّرف بحرّية بلا عوائق.
في انتظار إنشاء المديرية المختصة بالطاقة المتجددة المُحدثة، واستمرار هذا النهج في إدارة شؤون القطاع ومصادرة الوزير لصلاحيات كل مديريات وزارته والمؤسسة، لا يمكننا أن نتوقع سوى تعطيل تنفيذ القوانين ومزيد من نوبات العتمة الشاملة التي ما زلنا نعيش على شفيرها. ويتمّ ذلك على الرغم من زيادة التعرفة وإغراق صناديق المؤسسة بحصيلة جباية الفواتير غير العادلة. فكيف يمكن لعاقل «مؤمن» أن يتوقع تطبيق أحكام قانون الطاقة المتجددة الموزعة في غياب الهيئة الناظمة؟ وكيف يكون ذلك في ظل مؤسسة متآكلة يسودها الشغور وينحو قانون تنظيم قطاع الكهرباء نحو إلغائها، بل هي تمارس أعمالها اليوم بمجلس إدارة غير مكتمل وبمن تبقّى فيها خارج مبناها الرئيسي؟