بين توحيد سعر الصرف وتحريره – بقلم غازي محمود
• عميد متقاعد، دكتوراه في الاقتصاد، باحث في اقتصاديات الطاقة
استبق حاكم مصرف لبنان بالإنابة دفع رواتب القطاع العام من عسكريين وموظفين مدنيين ومتقاعدين نهاية الـ ٢٠٢٣ باعتماد سعر الـ ٨٩٥٠٠ ليرة لبنانية للدولار الواحد، بدلاً من الـ ٨٥٥٠٠ الذي استمر باعتماده لنفس الغاية منذ توليه مسؤولياته في بداية آب/أغسطس الماضي. ما يُشكل مؤشراً الى التوجه لوضع حدٍ لتعدد أسعار صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي الذي اضحى امراً ملحاً، على الرغم من أن دونه تراجُعِ قدرة مصرف لبنان على التدخل في سوق القطع للمحافظة على تقلبات سعر الصرف ضمن هامشٍ محدد، ويتطلب مجموعة من الإجراءات التي تسمح بتحرير سعر الصرف وليس توحيده وحسب.
في المقابل، ينعكس الغاء سعر صيرفة واعتماد سعر السوق الموازية لدفع الرواتب، ضرراً مباشراً على العسكريين وموظفي القطاع العام والمتقاعدين لخسارتهم قُرابة الـ ٥٪ من رواتبهم بمجرد اعتماد مصرف لبنان هذا السعر لدولار الرواتب. وكأنه لا يكفي ما آلت اليه رواتب موظفي القطاع العام عامةً، وعناصر الأجهزة العسكرية والامنية والمتقاعدين خاصةً، من انخفاض وتدني في قوتها الشرائية حيث لا تتجاوز رواتبهم اليوم الـ ١٠ بالمئة مما كانت عليه قبل انهيار العملة الوطنية.
وهي ليست المرة الأولى التي يعتمد فيها مصرف لبنان سعراً ثابتاً لصرف الليرة مقابل الدولار الأميركي، فقد سبق أن اعتمد سعر بلغ متوسطه ١٥٠٧,٥ في العام ١٩٩٣ واستمر حتى نهاية العام ٢٠١٩، وذلك عندما كان المصرف قادراً على التدخل في سوق القطع للمحافظة على هذا السعر. وخلال الازمة وحتى قراره الأخير اعتمد المصرف اكثر من سعر لليرة مقابل الدولار في الوقت عينه، بموجب تعاميم تتعلق بالسحوبات والمعاملات المصرفية. علماً أن في تثبيت سعر صرف الليرة مقابل الدولار الأميركي ربط لليرة بالدولار، ما يحول دون أن يعكس سعر الصرف قوة الليرة وكذلك ضعفها، سيما وأن الليرة هي مرآة الاقتصاد الوطني.
وغالباً ما تلجأ السلطة النقدية الى تثبيت سعر الصرف بهدف تأمين بيئة مناسبة للاستثمار، تكون فيها العملة الوطنية مستقرة نسبياً وتنحصر تقلباتها ضمن هواش محدودة. خاصةً وأن تثبيت سعر الصرف يُساهم في زيادة النمو الاقتصادي والحد من التضخم، الامر الذي يُشجع دخول التوظيفات الخارجية لتمويل الاستثمارات الإنتاجية. إلا أن السلطتين المالية والنقدية في لبنان لم تحترمَ الاعتبارات المشار اليها لجهة تشجيع الاستثمارات وتحقيق النمو والحد من التضخم، حيث اقتصر استخدام التدفقات الخارجية التي توافرت للبنان منذ مطلع التسعينيات، للتوسع بالإنفاق الحكومي مع كل ما ينطوي عليه ذلك من أعباء.
ذلك أن تثبيت سعر الصرف خلال الفترة المذكورة اعلاه لم يكن من دون مقابل، بل كبد مصرف لبنان مبالغ طائلة دفعها فوائد لاستقطاب السيولة من الاسواق المحلية والعالمية. وكان للاقتصاد الوطني حصته في تكلفة تثبيت سعر الصرف وربطه بالدولار الأميركي، وذلك بسبب تراجع الاستثمار المحلي والاجنبي في لبنان وارتفاع تكلفته وما استتبع ذلك من ارتفاع في تكلفة الإنتاج الوطني وتدني تنافسيته في الأسواق العالمية. فالسقوف التي بلغتها أسعار الفائدة طوال تلك الفترة، حالت دون توظيف السيولة المتاحة في الاستثمارات ودون مساهمتها في النمو الاقتصادي.
ومع منصة صيرفة حاول مصرف لبنان أن يتحكم بسعر الصرف إلا أن محاولته باءت بالفشل، خاصة بعدما اقتصر دور هذه المنصة على تأمين الدولار النقدي للمحظيين من افراد ومؤسسات. وبينما كان من المُفترض أن يكون سعر الصرف الذي يُسجل على منصة صيرفة بمثابة المرجع الذي يتم التداول ضمن هوامشه في السوق النقدية، اعتمد القيمون على المنصة سعر الصرف السائد في السوق الموازية مع هامش معين لتحديد سعر صيرفة، حيث اقفل على ٨٥٥٠٠ ليرة قبل التوقف عن العمل به مؤخراً.
وتوحيد أسعار الصرف يتم باعتماد سعر صرف لكافة العمليات النقدية والمالية والمصرفية، ومن شأنه أن يضع حداً للمضاربة على الليرة والحد من فرص تحقيق الأرباح على حسابها، ويُساهم في تخفيض الضغوط على احتياطات مصرف لبنان من النقد الأجنبي، كما يُمهد الطريق أمام تحرير سعر الصرف الذي تحدده قوى السوق من خلال العرض والطلب على العملات الاجنبية. علماً أن مسألة توحيد أسعار الصرف تُشكل أحد الشروط الاصلاحية المسبقة لصندوق النقد الدولي، ومدخلاً للاتفاق الذي يسمح بحصول لبنان من الصندوق على قرض بقيمة ثلاث مليارات دولار.
وعلى الرغم من أن توحيد أسعار الصرف يتوقف على قرار من السلطتين المالية والنقدية، السلطة المالية من خلال سعر الصرف المعتمد في الموازنة العامة، أما السلطة النقدية فمن خلال الغاء التعاميم التي يتضمن كلٍ منها سعر صرف مختلف.
إلا أن نجاح هذا التوحيد، يتطلب إقرار السلطة التشريعية لرزمة من الإصلاحات المترابطة والمتزامنة في إقرارها وتطبيقها. علماً أنه من المستحيل إقرار وتطبيق أيٍ من هذه الشروط بمعزل عن الشروط الأخرى، وأن يكون الهدف الأساسي هو تحرير سعر الصرف وليس توحيده وحسب.
ومسألة تحرير سعر الصرف أصبح ممراً الزامياً للإصلاح النقدي، سواء حصل الاتفاق مع صندوق النقد الدولي أم لم يحصل. ذلك أن السير بالإصلاحات عامةً، وبالإصلاحات المالية والنقدية خاصةً، أضحى ملحاً ولا بد منه للنهوض الاقتصادي ودفع عجلة النمو الى الدوران مجدداً. سيما وأن تثبيت سعر الصرف وربطه بالدولار الأميركي على مدى ٢٧ سنة، شكل أحد الأسباب الرئيسية للازمة المالية والاقتصادية التي يتخبط فيها لبنان، وأي محاولة لمعالجة هذه الازمة يجب ان تتناول تحرير سعر الصرف.
وثمة مخاوف من ان يتسبب تحرير سعر الصرف او تعويمه بتقلّبات حادة في سعر العملة الوطنية، وأن يقفز سعر الدولار الى مستويات قياسية غير مسبوقة لا طاقة للبنانيين على تحمل تبعاتها. خاصةً وأن التقلب في سعر صرف الليرة سينعكس عدم استقرار على الأسعار التي وإن كانت في معظمها مدولرة، يبقى العديد منها ومن الرسوم والضرائب بالعملة الوطنية. سيما وأن تدخّل مصرف لبنان في سوق القطع منعاً للتقلبات الكبيرة في سعر صرف الليرة أصبح من الماضي، لاستحالة تدخله بالشكل الذي كان يحصل سابقاً، بعد تبديد الحاكم السابق احتياطات مصرف لبنان من العملات الأجنبية وعجزه عن استقطاب ودائع جديدة.
واعتماد مصرف لبنان لمتوسط سعر دولار السوق الموازية لدفع الرواتب، هو من الناحية العملية بداية لتحرير سعر الصرف. وفيه أيضاً تحرير لمصرف لبنان من الخسائر التي كان يتكبدها جراء الفارق بين سعر صرف الليرة مقابل الدولار الأميركي في السوق الموازية وسعر صيرفة، وهو ينسجم أيضاً مع ما كان قد أعلنه حاكم مصرف لبنان بالإنابة الدكتور وسيم منصوري عن عدم تمويل الحكومة تحت أي مُسمى. اما المخاوف من أن يتسبب تحرير سعر الصرف بارتفاع سعر الدولار الأميركي مقابل الليرة اللبنانية، فينفيها استقرار سعر السوق الموازية حتى الساعة ويبدو انه مرشح لان يستمر.
وقد أثبتت السياسات النقدية التي اعتمدتها الحاكمية الجديدة لمصرف لبنان، صوابيتها لجهة وقف تمويل الدولة من الاحتياطات المتبقية في الوقت الذي بلغت فيه إيراداتها الشهرية ما يُقارب الـ ٢٠ تريليون ليرة لبنانية. وتزامنت هذه السياسات مع موسم سياحي مزدهر تخلله ضخ مبالغ نقدية كبيرة بالدولار من قبل السواح والمغتربين، وتحرير سعر صرف الدولار اليوم يترافق مع عيدي الميلاد المجيد والسنة الجديدة اللذان شهدا ازدهاراً ملحوظاً على الرغم من تصاعد المواجهة العسكرية مع العدو الإسرائيلي في جنوب لبنان.
أما التحذيرات التي يُطلقها بعض الخبراء من مغبة تحرير سعر الصرف، فهي تتعارض مع الوقائع التي تشهدها سوق القطع، حيث استمر استقرار سعر الصرف على الرغم من غياب التوافق السياسي الداخلي، وعلى الرغم من تصاعد التهديدات العسكرية والأمنية. وتأقلم اللبنانيين مع الازمة المالية والاقتصادية، او التطبيع مع الازمة بحسب التعبير الذي أطلقه البنك الدولي، ليس جديداً وهو السر الذي يقف خلف صمودهم في مواجهة انهيار قوتهم الشرائية وضياع مدخراتهم. فلا هم استفادوا من الدعم الذي بدد قُرابة الـ ١٨ مليار دولار أميركي من الاحتياطات، وكذلك استحداث منصة صيرفة لم يكن لمدهم بالدولار النقدي.
وهنا لا بد من إعادة التأكيد على عدم جواز استمرار التهرب من الإصلاحات المالية والاقتصادية، التي يجب أن لا تكون كرمى لعيون صندوق النقد الدولي، بل هي إصلاحات يجب أن تسير بالتوازي مع سياسات مصرف لبنان وداعمة لها. ومن غير المنطقي أن تختصر السياسات النقدية التي يقرها مصرف لبنان، سياسات الدولة المالية والاقتصادية التي يجب أن تحددها الوزارات المعنية، بعدما حصد لبنان واللبنانيون خيبات تلك السياسات ازمةً مالية واقتصادية لا نزال نجر ذيولها حتى اليوم.
وعلى الرغم من أن أبعاد الازمة اللبنانية وتداعياتها هي مالية واقتصادية بامتياز، إلا أن حقيقة الأزمة تكمن في النظام السياسي القائم على تقاسم السلطة بين الاطراف السياسية، واعتبارها اقطاعات لصرف نفوذهم وتأمين أسباب ديمومته. وجاء تصنيف الوزارات بين وزاراتٍ سيادية وأخرى أقل اهمية وتوزيعها على أساس طائفي، ليجعل منها مغانم للمسكين بالقرار السياسي ولا مكان فيها للمصلحة العامة.
وتصويب علاقة هذه الأطراف بوزارات الدولة ومؤسساتها هو شرطٌ لنجاح المعالجات المنشودة، بحيث يخضع كل من يتولى مسؤوليةً في الدولة اللبنانية، من اعلى الهرم الى اسفل القاعدة، للمسائلة والمحاسبة بعيداً عن الحمايات الطائفية والسياسية. كما تتطلب المعالجة اعتماد الحوكمة الرشيدة التي تقدم الكفاءة على ما عداها من اعتبارات، وإعلاء معيار المصلحة العامة فوق أي معيارٍ آخر، واحترام القوانين والأنظمة المرعية الاجراء والتقيد بمقتضياتها. وبغير ذلك تكون السياسات النقدية ومحاولات توحيد وتحرير سعر الصرف محدودة الفعالية، لا بل اشبه بصرخة في وادٍ.